فور صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلى السابق يوآف جالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى قطاع غزة، انبرى المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى وسارع بالقول إن الولايات المتحدة ترفض بشكل جوهرى قرار المحكمة ونشعر بالقلق العميق إزاء إصدار أوامر الاعتقال، لأن الولايات المتحدة تؤكد أن المحكمة ليس لها اختصاص فى هذه المسألة.
ولا يختلف الحالى عن القادم بين حكام البيت الأبيض، إذ توعّد مايك والتز، مستشار الرئيس الأميركى المنتخب دونالد ترمب للأمن القومي، بردّ قوى على المحكمة والأمم المتحدة، فى يناير المقبل.
وانهالت ردود الفعل شديدة اللهجة من الولايات المتحدة، متجاوزة كل الحدود متخطية القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية، ووصلت إلى تهديدات بتفعيل «قانون لاهاى للغزو»، وهو الاسم غير الرسمى لقانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية، الذى وقعه جورج بوش فى أغسطس 2002، لحماية العسكريين الأمريكيين والمسؤولين من الملاحقة القضائية من المحكمة الجنائية.
ويمنح القانون الولايات المتحدة سلطة استخدام «جميع الوسائل الضرورية»، بما فى ذلك القوة العسكرية، لضمان إطلاق سراح أى أمريكى أو حليف تحتجزه المحكمة، وجاء قبل الغزو الأمريكى للعراق الذى ارتكب فيه العديد من جرائم الحرب، وأثار القانون موجة من الانتقادات، ووصفته هيومن رايتس ووتش بأنه محاولة لترهيب الدول التى تتعاون مع المحكمة.
وقد أُطلق عليه اسم «قانون غزو لاهاي»، لأنه يسمح للولايات المتحدة بغزو هولندا، حيث مقر المحكمة الجنائية الدولية، لتحرير أى أمريكى محتجز لدى المحكمة، واقترح بعض المشرعين الأمريكيين، وخاصة الذين يؤيدون إسرائيل بشدة، استخدام هذا القانون كوسيلة ضغط ضد المحكمة وأى دول تنفذ أوامر الاعتقال.
وتشير تهديدات المشرعين الأمريكيين إلى أنه قد تكون هناك عواقب وخيمة على أى دولة تحاول تنفيذ أوامر الاعتقال، وقال الرئيس بايدن «إن المحكمة الجنائية الدولية شيء لا نعترف به»، وهو الذى يتباهى بأنه لو لم توجد إسرائيل لاخترعناها، وأنه صهيونى الهوي، بل يخطط أعضاء فى الكونجرس للتصويت على مشروع قانون أقره قبل شهور مجلس النواب لفرض عقوبات على المحكمة، والجماعات والدول التى تساعدها.
وعلى النقيض، أكدت الدول الأوروبية أن مذكرة التوقيف ليست قرارا سياسيا، إنها قرارات محكمة ويجب احترامها وتنفيذها، وتعهدت دول أوروبية كثيرة، بما فيها أعضاء حلف شمال الأطلسى (الناتو) مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا وتركيا، بتأييد الحكم، وكان لهم من الكيل الأمريكى الجائر نصيب، إذ وجه السيناتور ليندسى جراهام تحذيرا لقادة أوروبا وأن أى شخص يساعد ويحرض على هذا الجهد المتهور سيكون فى الجانب الخطأ من الولايات المتحدة، بل وزادت واشنطن الطين بلة، بأن توعدت بسحق اقتصاد أى دولة تؤيد القرار.
ومنذ أن تم زرع الكيان السرطانى الصهيونى فى جسد الأمة العربية، تتولى أمريكا حماية هذا الكيان والدفاع عنه بالباطل وتستخدم حق النقض «الفيتو» ضد أى قرار يدين جرائم الدولة العبرية، وآخرها الأربعاء الماضي، ضد قرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار فى غزة، رغم الإبادة والمذابح المستمرة فى القطاع منذ أكتوبر 2023.
لم يعد هناك أى شك فى أن الحرب على غزة أمريكية خالصة تساهم فيها إسرائيل، وقد ذكرتُ مرارا وتكرارا ويقينا بأن أمريكا لو أرادت أن توقف الحرب لأوقفتها فى التو واللحظة، لكن المؤكد من كل التصرفات أن الأمريكيين هم الذين يقودون القتال، يضعون الخطط وينفذون العمليات، ويمدون الصهاينة بالسلاح والمال والدعم اللوجستى والمعنوى والاستخباراتي.
كذلك لم تعد هناك بقية من حمرة خجل فى وجه الإدارات الأمريكية، لا السابقة ولا الحالية ولا المقبلة، كلها تنضب من معين واحد، تعمل من منطلق القوة، وتسن القوانين وتتخذ القرارات على أهوائها، ولاعزاء لأى شيء آخر.
أظن أن اليوم الذى ستتفكك فيه المنظمات الدولية قد اقترب، لأنها لم يعد لها قيمة أمام الغطرسة والسطوة الأمريكية.