«قيم أمريكية منتهية الصلاحية»
مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض مجددا تتجدد المخاوف على مستقبل الديمقراطية الأمريكية من ناحية وعلى مستقبل العالم من ناحية أخري، فصعود اليمين واليمين المتطرف فى اوربا لم يكن وليد الصدفة بل كان نتيجة تطلع المجتمعات الاوروبية نحو التغيير الحاد والمزلزل بصرف النظر عن نتائجه، هناك حالة عصبية باتت تحكم سلوك الناخبين ففى فرنسا وجدنا تحولات دراماتيكية خلال أيام من أقصى اليسار إلى أقصيت اليمين والعكس، أما ما جرى فى الولايات المتحدة فهو ليس صعودا لليمين فحسب بل ظهور تيار جديد جارف اسمه « الترامبية «، هذا التيار سيفعل الأفاعيل فى الداخل الأمريكى وربما يكمن خطر هذا التيار – وفقا لمحللين – على انقسام المجتمع الأمريكى بل وذهب البعض إلى ان شبح الحرب الاهلية ربما يخيم من جديد.
>>>
كل ما سبق شأن أمريكى لكن ما مدى تأثير وصول ترامب وسيطرة الترامبية على العلاقات الخارجية للولايات المتحدة؟ اتذكر مقولة لثعلب الدبلوماسية الأمريكية الراحل هنرى كيسنجر ذات مرة:
«أن تكون عدواً لأميركا قد يكون أمراً خطيراً، ولكن أن تكون صديقاً فهذا أمر قاتل» ربما كان هذا القول مبهما حين نشره ثعلب الدبلوماسية الأمريكية، لكن الوضع بات مختلفا الآن، فتفسير هذه المقولة التاريخية نعيشه الآن ولا نحتاج مذكرة شارحة ومفسرة وأصبحنا جميعا نصفق لعبارة كسينجر العبقرية ونرددها فى صوت واحد، فصديقك الذى يدير علاقاته معك بحماقة أخطر ألف مرة من عدوك الذى يدير صراعاته معك بحكمة وتعقل.
>>>
الولايات المتحدة قد يكون صديقا مخيفا لا تتوقع أفعاله بسهولة فلا تأمن جانبه وقد تكون عدوا مريحا تستطيع أن تدير معاركك معه مستعينا بوثائق التاريخ أثناء كل الحروب التى خاضتها امريكا مع فيتنام والعراق وافغانستان والصومال وسوريا، امريكا تقود العالم اقتصاديا وعسكريا لكنها فشلت أن تديره أخلاقيا، الآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانت طموحاتهم أن تكون الحضارة الأمريكية متكئة على قواعد أخلاقية تحددها مجموعة القيم الأمريكية، ربما كانت الحرية هى ذروة سنام الحضارة الأمريكية نظريا.
>>>
لكن المتابع المتخصص للتغيرات الجارية داخل المجتمع الأمريكى ربما لاحظ أن هناك جلطات فى شرايين القيم الأمريكية مجتمعة، فالحرية والمساواة وقبول الآخر وحقوق الإنسان وكل مبادئ النيوليبرالية تتعرض لعمليات تجريف غير مسبوقة، فالانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين ليس خلافا حول تكتيكات الحفاظ على الثوابت وإنما تحول الى خلاف حول الثوابت ذاتها، فقضية الحريات باتت موضع خلاف حقيقى بين الأمريكيين، هذا الخلاف لا يرتبط بآليات ممارسة تلك الحريات بل وصلت الى حد الخلاف حوّل تعريف الحرية ذاته،وهكذا باتت الخلافات جذرية وليست فرعية كما يظن البعض.
>>>
من هنا يجب أن ننتبه الى تلك التغيرات الداخلية فى المجتمع الأمريكى الذى انتقل من فكرة « سيادة العالم « إلى فكرة « امريكا اولا « وهذا كله يؤثر على كل ملفات الإقليم المشتعل الذى نعيش فيه، وهنا أعود إلى حكمة كسينجر واحاول الربط بينها وبين علاقة الصداقة القوية والإستراتيجية التى تربط امريكا واسرائيل من ناحية، وعلاقة العداء الشديد والإستراتيجى بين امريكا وايران، وهنا نرصد المعنى الحقيقى لكونك صديقا للولايات المتحدة وكذلك المعنى الدقيق لكونك عدوا لها،
>>>
هنا يمكن القول إن «أمريكا تدعم إسرائيل بحماقة وتعادى ايران بحكمة « هذه الصداقة القاتلة وهذا العداء الباهت يقودنا الى مربع «الملل الإستراتيجي» الذى يعكس صداقات عشوائية ليس لها أفق وبالطبع دون شروط، وبين عداوات مدارة بحيث لا تخرج عن الإطار المخطط والمرسوم، ومع طول فترات الصداقة الحمقاء أو العداء المزركش بألوان الطيف يتولد لدى الناس حالة ملل طوييييييلة يمكن أن نطلق عليها
«الملل الإستراتيجي» أو الملل المُخطط «فالصراع العربي- الإسرائيلى والصراع الإيراني- الأمريكى والتنافس الصيني- الأمريكى والعداء الروسي- الأمريكى ويضاف اليها الملفات الليبية والسودانية واليمنية والسورية جميعها باتت ملفات أو أزمات مملة- حقا مملة.