كان متجهاً إلى الجبهة فى السويس مع مجموعة من الفنانين والفنانات، جمعهم الأتوبيس الواحد، والهدف واحد والمأساة التى لم تكن فى الحسبان.. فقد تحول أتوبيس الرحلة إلى حطام على طريق السويس فى أقل من دقيقة، ووقتها فى عام 1968 وفى ظل ظروف الحرب، كان الظلام يحيط بأغلب أرجاء البلد، وقت الحادث وقبل أن تأتى سيارات الاسعاف، رأى نفسه محطماً، تحسس وجهه وجسده ووجد أنه تحول إلى ميت حى، يختلف فقط عن الجثث التى لفظت أنفاسها أنه مازال على قيد الحياة وان كان بما جرى له من كسور وجراح أقرب إلى الموتى منه للأحياء، ووقتها أدرك أن الدنيا كانت صفحة عليه أن يطويها، فقد ضاع حلمه الذى جاء به من دسوق إلى القاهرة، عندما سمعت أم كلثوم إليه ونصحته بالاتجاه إلى العاصمة، بعد أن كان يغنى المدائح فى أفراح القرى والموالد.
فى المستشفى قدم إلى زوجته ثروته وهى 8 جنيهات وساعة يده، وهمس إليها أن تبحث لها عن زوج غيره، فلم يعد يصلح للحياة بوجه مشوه وقدم لا يستطيع أن يمشى عليها إلا وهو يحجل، لكن د.حسن الحفناوى بفضل الله نجح فى ترميمه ووقتها تذكر أن الذى أعاده إلى الحياة يوم أن انقطع لسانه فى ماتش كرة كان يلعبه فى دسوق، هو القادر بفضله ورحمته أن يعيده إلى الدنيا ويصالحها عليه، بعد البهدلة والمرمطة التى دفعته إلى أن يعمل فى بيت عبدالوهاب، ليس فقط بحثاً عن لقمة العيش، لكن من أجل الفن وقد ألقت به المقادير إلى العاصمة بلا أنيس أو جليس أو سند، إلا كلمة تعلق بها قالتها له أم كلثوم ذات مساء: صوتك حلو.
فى الزحام
فى القاهرة ساعده الصحفى الكبير محمد حسين شعبان أحد أبناء «الجمهورية» ومحررها العسكرى المشهور، وأحد نجومها بعلاقاته المتشعبة مع الرياضة والفن، فتح له بيته حتى استطاع أن يجد فى زحام العاصمة موقعاً يعلن فيه عن نفسه كفنان والموضة أيامها أن يغنى المطرب فى الصالات، ومن لم يدخل صالة بديعة مصابنى لن يستخرج بطاقته كفنان، فى هذه الصالة خرج فريد الأطرش وأم كلثوم وأسمهان وعبدالمطلب، ويضاف إليهم ابن دسوق محمد محمد عبدالرحمن الراجحى المعروف فنياً باسم «محمد رشدى»، أو مأذون البلد، الأغنية التى سأل الناس عن مغنيها وهو أدهم الشرقاوى الذى تحول إلى حكاية فى كل بيت وكل مقهى وكل ناصية والراديو يجلجل بمواويله وجيل بعد جيل عرفوه، أدهم الاسم الذى أطلقه على ابنه من فرط نجاحه الذى بلغ العندليب، فاعتبرها ثورة شعبية ضد مملكة العندليب العاطفية وقرر بعدها على الفور أن يبحث عن أكبر المديرين لهذه الثورة وهما الشاعر الصعيدى عبدالرحمن الابنودى والموسيقار الفلتة بليغ حمدى، وارتدى عبدالحليم حافظ الجلباب وغنى «التوبة» وقدم موال «أدهم الشرقاوى» فى الفيلم الذى لعب بطولته عبدالله غيث عن قصة كتبها رائد الفن الشعبى زكريا الحجاوى وأخرج الفيلم حسام الدين مصطفى عن سيناريو كتبه سعد الدين وهبة، ولم يظهر حليم فى الفيلم لكن اسمه تصدر الافيش فوق الجميع، وكأنه يعلن التحدى لابن دسوق الذى سبقه إلى أدهم الإذاعى بعامين فى صياغة لواحد من أهم شعراء الصور الغنائية الاسكندرانى محمود اسماعيل جاد، والبعض يخلط بينه وبين واحد نجوم الشر فى السينما المصرية وهو محمود اسماعيل بطل «سمارة» وعشرات الأعمال منها «ابن الحتة».
أخرج الملحمة الإذاعية يوسف الحطاب أحد رواد الدراما الإذاعية، ولعب البطولة محمد السبع وكريمة مختار وعبدالغنى قمر، ونجح حليم أن يخطف الابنودى وبليغ، لكنه أبداً لم يخطف رشدى، فقد لاعبه بكل الحيل والطرق التى يجيدها، وكم من صحبة إلى المغرب وقد كان تربطه بالملك محمد الخامس صداقة فتحت له أبواب القصر الملكى وخزائنه، وكان هو من يختار ويصطفى من يصحبه إلى الحفلات الخاصة لكى يصيبه القدر الكبير من الدلع المادى غير المسبوق، ولما سألوا حليم عن سر جنانه مع رشدى فى رحلات المغرب، كان جوابه حتى لا يتفرغ فى مصر لألحان تكسر الدنيا بلغة أهل الفن، لكن الفلاح الفصيح كسرها بأغان من نوعية عدوية «كعب الغزال، وهيبة، ميتا أشوفك» حتى أطلقوا عليه لقب «مغنى العمال والفلاحين»، وكان يقرأ ويتابع كل صغيرة وكبيرة لكى يكون مع أهله وناسه ووطنه لحظة بلحظة.
شكراً يا سينما
رشدى البرىء دخل السينما عبر ٦ أفلام وخرج منها كما دخلها، إلا أن الفيلم الذى حمل اسمه «عدوية» أشهر ما غنى إلى جانب «حارة السقايين، فرقة المرح، ورد وشوك، ٦ بنات وعريس، السيرك» وكانت هذه الأفلام مكافأة نجاحه كصوت فى وجود عبدالحليم وفريد ومحرم وعبدالمطلب وشفيق جلال وماهر العطار والعزبى والتلبانى وقنديل وكارم وسعد عبدالوهاب، الذى نصحه بأن يغير اسمه.. العجيب أن هذا الصوت رغم كل ما صنعه من نجاح مدو واعتماده فى الإذاعة بـ 17 جنيهاً عن كل أغنية، هو نفسه الذى طردته ماسبيرو من جنتها مع 44 من أمثاله بحجة انها أصوات انتهت صلاحيتها، وكان من بينهم عبدالمطلب، ولا تندهش فقد كانت لعبة من بعض الموظفين، الذين يجاملون ويقررون على هواهم، ووجد نفسه فى الشارع بلا حول ولا قوة ولا «17 لحلوحاً» هى التى تمنحه قبلة الحياة كل أسبوعين لأن شغل الأفراح والصالات طارى والمسألة تحتاج إلى فلوس للمؤلف إذا كتب والملحن إذا أمسك العود، ولم يجد إلا شارع محمد على، وماله أهو أكل عيش وفى الميدان الذى يحبه بطريقة لا يحبها.
قابلته الإعلامية الكبيرة آمال فهمى على الناصية وكانت تسجل برنامجها فى الشوارع فعلاً، وقد فعلت معى هذا وأخذتنى فى عربتها البيجو 504 عند النادى الأهلى وسجلت معها، وقد رتبت معى اللقاء، لكن بطريقة فيها حرفية عالية ووصل صوت المظلوم إلى أهل الإذاعة ومن خلال برنامج إذاعى كانت له وقتها «ألف شنة ورنة» أى له شهرته الكبرى وبسبب البرنامج عاد إلى الإذاعة، وفى ذلك قال عبدالحميد الشجاعى الحاكم بأمر الغناء:
صوتك كبير لكن مخك صغير يا رشدى
والمعنى فى بطن وعقل من قال، وارتفع أجره وبدأ يتعلم كيف يدارى على شمعته، حتى انه ذهب إلى بليغ فى بيت عبدالحليم حافظ ومعه كلمات أغنية «ميتا أشوفك يا غايب عنى عينى» وخوفاً عليها أخذ بليغ إلى الحمام لكى يلحنها داخله، ويأخذها من فم الأسد.. فى بيت عبدالحليم كان أفراد عائلته يغنون «تحت الشجر يا وهيبة» من فرط ما حققت من انتشار وإقبال من الناس، وهم لا يعرفون أن ملحنها هو أيضا الممثل القدير عبدالعظيم عبدالحق، الذى غطت صنعته كممثل على موهبته كملحن له أوتاره وأياديه البيضاء على أغلب نجوم الغناء رشدى ومحرم وقنديل وسعاد محمد و…. و……
فهل يدهشك بعد هذا أن هذا الصوت الشعبى كان عاشقاً لصوت عبدالحليم حافظ رغم المنافسة وعند وفاته قال: «الحيطة بتاعتنا وقعت»، إشارة إلى انتهاء عصر الغناء الحقيقى.
وعندما غنى «دامت لمين» منعها صفوت الشريف وزير الإعلام لأسباب قيل إنها سياسية، وفى بدايته حذره حسن الشجاعى المسئول الإعلامى الكبير من الاستمرار فى جلباب عبدالمطلب.
حياة رشدى التى بدأت بمأساة كاد على اثرها يفقد النطق بعد أن أصيب بجرح قاطع فى لسانه، لكن الأقدار كانت به رحيمة مثلما عاد للحياة من جديد بعد حادثة أتوبيس السويس وبسبب أغنية أداها فى بداية حياته باسم مؤلف لا يعرفه رهن مساعدته والجاكت الذى يلبسه بعدها لجأ المؤلف للقضاء وأنصفه ولم يكن تلك ما يسدد به أجره وتعويضه.. حياة حافلة تغير فيها من حال إلى حال ولكنه ظل كما هو حال البلد وقد حكى لى عبدالرحمن الأبنودى كيف كان يجلس مع رشدى وتدخل عليهما فرخة أو دكر بط وكأنهما من أهل البيت.