منذ سبعة عشر عاماً مضت وفى الثانى من مارس تحديداً دخلت على الأديب الكبير ثروت عكاشة فى محرابه وكان الرجل يعيش لحظات من المناجاة فى دنيا القلم والقرطاس، حيث يسكن فى حى المعادى الهادئ وتحديداً 34 شارع 14، ألقيت عليه التحية فرد عليّ بأفضل منها ودعانى بترحاب شديد للجلوس، وبدأت صفحات التاريخ الناصعة التى تروى قصة هذا الهرم الثقافى والفكرى تترى أمامى بسرعة مذهلة.. لقطات متتالية للرجل مع محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وشارل ديجول ونهرو وأحمد سوكارنو وتيتو وجورج بومبيدو وأم كلثوم وطه حسين وفكرى أباظة ويحيى حقى ومصطفى محمود ويوسف السباعى وعبدالرحمن الشرقاوى وجان بول سارتر، وينظر الى الرجل ويدعوننى للجلوس مرة ثانية.. لكننى بادرته قائلا: كيف ترى المستقبل ولماذا غاب المثقفون عن الاشتباك مع قضاياه المعقدة؟، وكيف السبيل للخروج من هذا النفق المظلم؟، وكيف نواجه هذا التجريف الحاد للعقول؟، وهل لديك بوصلة ترشدنا إلى المدينة الفاضلة والبلاد المحجوبة؟، رد الرجل فى هدوء قائلا: أنت وجيلك من يجب أن يجيب على هذه الاسئلة، فقلت له ضاحكاً: أنا وجيلي!، قال: نعم فأنا وأبناء جيلى لا نحمل إلا أفكاراً كلاسيكية معادة ولن تقودكم إلى حيث تحلمون، لا تنظر إلى مستقبلك بعيون غيرك ولا تحاول تغيير الماضى فقط يمكنك تغيير المستقبل، فقلت له مستقبلنا يمر دقيقة بدقيقة ولا نكاد نرى أبعد من تحت أقدامنا، فضحك من أعماقه حتى كاد يستلقى على ظهره، استأذننى دقائق وقال لى هذه المكتبة تجول فيها ومعها كيفما تشاء، ووقعت عينى على كتاب أنيق وردة فى عروة الفارس النبيل عبارة عن شهادات نخبة من المفكرين والمثقفين فى ثروت عكاشة، وقفت عند كلمات الدكتور أحمد عكاشة عن شقيقه الاكبر ثروت عكاشة حينما قال:
ويعتقد البعض أن ثروت تنقصه روح الفكاهة، حيث ترتسم على وجهه ملامح الحزم المقرون بالشجن كما يبدو فى معظم صوره جاداً صارماً وهذا الانطباع يختلف كل الاختلاف عن شخصية ثروت المرحة وحبه للفكاهة والدعابة واستمتاعه بالجلسات المرحة التى تدوى فيها قهقهته العالية.. ويضيف الدكتور أحمد عكاشة فى موضع آخر أن الفروسية والشهامة وصون الكرامة التى يتميز بها ثروت، جعلته فى عراك مستمر وخلاف مع بعض القيادات السياسية، فبعد ثورة يوليو عرض عليه عبدالناصر أن يكون أحد أعضاء مجلس الثورة، فأصر برجولة أن يتولى من هو أقدم منه رتبة «حسين الشافعي» هذا المنصب قائلا إنه سيستمر فى سلاح الفرسان للدفاع عن الثورة. ووقعت عينى على تلك المقطوعة الرائعة التى عزفها الفنان حسين بيكار واصفاً الدكتور ثروت عكاشة، حيث أسماه مايسترو ثقافة العين والأذن وقال: والذى يسمع للدكتور ثروت عكاشة يجد نفسه محمولاً على محفة وثيرة من الأسلوب الرفيع ودقة التعبير، ورقة السرد، ورشاقة الكلمة، وأناقة العبارة، وسلامة اللغة، وارستقراطية اللهجة ونبل المذاق، ويجد نفسه يرتفع إلى الأفق الذى يحلق فيه الموضوع المطروق، وكأنما قرر المؤلف منذ أن أمسك بالقلم ألا يرضى بغير الآفاق العليا يسبح فى مراقيها وألا يعاشر غير الشوامخ والعمالقة وألا يتحدث عنهم إلا بما يرقى إلى مستواهم الشاهق ويتوائم مع مكانتهم المرموقة «يضيف فى موضع آخر» ثروت عكاشة فارس المفاجآت الذى يعدو بلا توقف، ويهرول دون إبطاء وراء الكمال الذى يسدله على جميع إنجازاته التى هى فى رأى الجميع كان ينبغى أن تكون نتاج مؤسسة ضخمة وليست من عمل فرد واحد، فقد قرر الرجل العظيم عندما ترك وراءه وزارة الثقافة أن يكون بمفرده وزارة «الرجل الواحد» بكل ما يتبع ذلك من أعباء ومسئوليات لا حد لها وأن يمسك قيثارته بكلتا يديه يعزف عليها منفرداً تارة، وتارة أخرى يمسك بعصا القيادة يدير بها المقاطع اللحنية بين العازفين ببراعة منقطعة النظير.. إن معرفتى الوثيقة بالمبدع الكبير ثروت عكاشة تجعلنى أشفق عليه أحيانا من مغامراته التى يصر على أن يثرى بها واقعنا الثقافي، وذلك بما تتسم بها شخصيته من مثاليات يندر أن تجتمع فى شخص واحد.. من أمانة علمية تبلغ درجة الوسواس، وانضباط عسكرى بالغ الصرامة، وتحليل معملى بالغ الدقة، وإرادة فولاذية تتحدى جميع الصعاب، وحب غامر يجعل الاسلوب الادبى ضرباً من ضروب الغزل.. ويقول كريستيان ديروش نوبلكور يا عزيزى ثروت إن لديك فضلاً عن وفائك لأصولك، ما يجعلك مواطناً عالمياً.