الحياد ليس كله خيرًا، فإذا كان محاولة لمسك العصا من المنتصف فهو نفاق و تمييع مرفوض لأى قضية، خصوصًا إذا تعلق هذا الحياد بظلم إنسان كان يمكنك أن ترفع عنه هذا الظلم أو ذاك الأذى لو أنك بادرت بنصرة الحق فى مواجهة الظلم.. فما بالك لو تعلق الأمر بوطن أو أمة تصارع للبقاء فى عالم لا يرحم الضعفاء ولا يتهاون مع المتخاذلين.. ولا عجب والحال هكذا أن يقول المفكر الجزائرى مالك بن نبى :»حين يكون المستهدف وطنًا يكون الحياد خيانة والصمت تواطؤًا».
وقيل إن المحايد هو شخص لم ينصر الباطل لكنه خذل الحق.
وسئل غاندي: متى يفقد الإنسان شرفه فقال: عندما يأكل من خيرات بلده ثم ينتمى لبلد آخر!!
لا شك أن الحياة صراعات لا تنتهي، صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين المعروف والمنكر، وهى صراعات محتومة تقع من قبيل التدافع، والتدافع سنة الله فى أرضه يقول الله تعالي: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» (البقرة من الآية:» 251)
وإذا سلمنا بأن الصراع بين الحق والباطل أزلي، عرفه البشر منذ عهد آدم، صراع البقاء والقوة والأمن والخلود، فلا مفر أن ينحاز الإنسان لأيٍّ من طرفى هذا الصراع، فأما الانحياز للأول فهو نداء الفطرة الصادقة وهو الحق المنشود، وأما الآخر فهو الضلال والبهتان.
ولأننا زائلون حتمًا، وهو أمرٌ معلوم من الواقع بالضرورة، فإنه من الحكمة أن نتخير مواقفنا ونكتب صحيفة أعمالنا بما نحب أن نراه بعد رحيلنا، وما نحب أن يذكره الناس عنا بعد موتنا، فالصالح من طاب ذكره وحسن فكره وعمله.
ولا يخفى أن الظلم تهديد للعدالة فى كل مكان، وأن الدفاع عن الحق والعمل على نصرته أمر ضروري، فذلك من باب الشهادة التى سنسأل عنها بعد مماتنا،وتلك الشهادة من يكتمها فهو آثم قلبه.
وفى تراثنا مثلٌ يروى فى كثير من المواقف لكن أكثر الناس ينسونه، يقول هذا المثل « أُكلت يوم أكل الثور الأبيض»، وقصة المثل… أن أسداً وجد قطيعاً مكوناً من ثلاثة ثيران، أسود وأحمر وأبيض، فأراد الهجوم عليهم فصدوه معاً وطردوه من منطقتهم.
ذهب الأسد وفكر بطريقة ليصطاد هذه الثيران، خصوصاً أنها معاً كانت الأقوي، فقرر الذهاب إلى الثورين الأحمر والأسود وقال لهما: «لا خلاف لدى معكما، وإنما أنتم أصدقائي، وأنا أريد فقط أن آكل الثور الأبيض، كى لا أموت جوعاً، أنتم تعرفون أننى أستطيع هزيمتكم لكننى لا أريدكما أنتما بل هو فقط.
فكر الثوران الأسود والأحمر كثيراً، ودخل الشك فى نفوسهما وحب الراحة وعدم القتال فقالا: «الأسد على حق، سنسمح له بأكل الثور الأبيض». فافترس الأسد الثور الأبيض وقضى ليالى شبعان فرحاً بصيده.
ومرت الأيام، وعاد الأسد لجوعه، فرجع إليهما وحاول الهجوم فصداه معاً ومنعاه من اصطياد أحدهما، ولكنه استخدم الحيلة القديمة، فنادى الثور الأسود وقال له: لماذا هاجمتنى وأنا لم أقصد سوى الثور الأحمر؟ فقال له الأسود: أنت قلت هذا عند أكل الثور الأبيض.
فرد الأسد: «ويحك أنت تعرف قوتى وأننى قادر على هزيمتكما معاً، لكننى لم أشأ أن أخبره بأننى لا أحبه كى لا يعارض اتفاقنا السابق.. فكر الثور الأسود قليلاً ووافق بسبب خوفه وحبه الراحة».
فى اليوم التالى اصطاد الأسد الثور الأحمر وعاش ليالى جميلة جديدة وهو شبعان، ومرت الأيام وعاد وجاع.. فهاجم مباشرة الثور الأسود، وعندما اقترب من قتله صرخ الثور الأسود قائلاً: «أُكلت يوم أكل الثور الأبيض».. هذا هو الحياد القاتل، فهناك قضايا يكون الحياد فيها شبه مستحيل، بل تتطلب تحديد الموقف وتسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة دون مواربة، حتى تتوسع الرؤية.. يقول المفكر الكبير الراحل زكى نجيب محمود «إن موقف الحياد هو موقف العاجز الذى يريد لنفسه السلامة والهدوء»، لكنه سيهوى بسبب من أمنهم وهم لا يأمنون ماضيه ولا حاضره ولا مستقبله.. وهذا هو روح المعنى فى الحديث النبوى الشريف الذى يقول فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم:» ما من امرئ يخذل امرءًا مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله فى موطن يحب نصرته».
الدفاع عن أى مظلوم واجب مهما يكن توجهه ومهما تكن عقيدته، وإن لم تصل به رابطة سوى رحم آدم، وفى الأزمات الأخلاقية يكون الحياد خيانة لأن الباطل يقوي، ويستشرى حتى ينال من الصامتين المتخاذلين الذين ظنوا أو توهموا أنهم بمنأى عنه.
وفى المقابل هناك حياد واجب، ذلك أن الانحياز وقتها يصبح جريمة تضيع بسببها الحقوق وتختلط الأوراق، فلا غنى عن حياد القاضى تجاه كل أطراف النزاع المتخاصمين، بغض النظر عن جنسهم وعرقهم ودينهم وهكذا، بل إن معظم الباحثين يؤكدون أيضا على ضرورة الالتزام بالحياد والموضوعية خلال البحث العلمي، لأن نتائجه-بكل بساطة- ستؤسس لأفعال وأعمال يسرى عليها وصف الخير والشر، والعدل والظلم وهكذا، بل إن البحث العلمي، عموما، مرتبط بتحقيق الحق ومحو الباطل.
وفى مجال السياسة والعلاقات الدولية فإن الحياد المطلق لا وجود له، وإن وجد فهو لا يسهم فى إرساء السلام العالمي، ولهذا ظهر الحياد الإيجابى مفهومًا جديدًا يتعلق به الأمل فى تحرك الدول للتوسط بين الدول المتحاربة، ومثل هذا «الحياد الإيجابي» كمفهوم يكرس أو يرسم سبيلاً مرغوبًا قد يسهم فى وقف الحرب وحقن الدماء، وهذا هو الحياد المقبول عقلاً وشرعًا.
وقد عالج الشرع الحنيف مسألة التدخل لحل النزاع بين المتحاربين بصورة متدرجة تبدأ بالصلح وتنتهى بقتال الفئة الباغية وهو درس بليغ يعنى أن الحياد لا مكان له إذا تعلق الأمر بالبغى والعدوان هنا يجب التدخل للصلح أولا فإذا انتهى المتحاربون فبها ونعمت وإلا وجب التصدى للباغى حفظا للسلام الاجتماعي، يقول الله تعالى يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَي. فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا . إِنَّ جياللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).. «الحجرات: 9».
لو أننا طبقنا هذا التوجيه الإلهى ما وصلنا لما نحن من تنازع وضعف وتفكك .