بـابا الوطنية و المحبة و الشباب
مع «من سبقوه».. اتفاق فى المقصد واختلاف فى الأسلوب
فى مثل هذا اليوم منذ 12 عاما، بدأت الكنيسة الأرثوذكسية القبطية فصلا جديدا من تاريخها الحفى المعطاء.. فصلا يقوده الخليفة 118 للقديس مارمرقس الرسول، صاحب الغبطة قداسة البابا تواضروس الثانى، ليصبح الـ18 من شهر نوفمبر عيدا لتجليسه وعيدا يحتفل به المصريون مسيحيين ومسلمين.
عطاء قداسة البابا لم يكن فى مجال بعينه بل هو عطاء إنسانى روحى وطنى بناء، وهو عطاء مواجهة بحسم وتنمية بفكر وإخلاص للمهمة المقدسة، إلى حد أن صار «أيقونة» للشخصية المصرية لمن أراد أن يعرف إتقان دوره إخلاصا لله وللوطن، وليصبح اسم قداسته بما قدم ويقدم محفورا بحروف من ذهب فى تاريخ الأمة المصرية.. والحديث عن تجليس البابا تواضروس يحيل الذاكرة لأحداث الفترة من 2012 إلى يومنا، حديث عن أهم فترات تاريخ مصر ففى سنوات معدودة استطاعت الدولة استرداد الوطن من مراحل الاختطاف إلى جمهوريتنا الجديدة..مرحلة تاريخ كان شاهدا ومشاركاً فيها قداسة البابا تواضروس.. ليصبح بحق البابا التاريخى لكنيستنا المصرية.
مع يومه الأول فى ممارسة مهامه «الباباوية»، تحمل قداسة البابا تواضروس مسئولية وطنه على عاتقه.
الأحداث فى هذا التوقيت مرت مضطربة مقلقة وأمام البابا الجديد، جماعة وصلت للحكم لتختطف الوطن من ابنائه، ووضعت دستور يحكمها فقط وجميع المصريين بلا وجود.. بل حتى مراسم التجليس بهيبتها ومكانتها وابتعادها عن الأذهان فترة كبيرة، التف وتابعها كل مصرى وحضرها كبار رجالات الدولة لكن غاب عنها «الرئيس»، لكنها مرة أخرى الشخصية الوطنية المتجذرة فى نفس قداسة البابا، لم تمر سوى أيام على تجليسه فيطلب ــ كما يسرد فى مذكراته ــ عدد كبير من المسئولين بإحدى السفارات أن يأتوا إليه فى زيارة، لكنه بحكمة شديدة يرفض أى زيارة من هذا النوع، فى هذا التوقيت قائلا «الأوضاع كانت متوترة للغاية، وكانت الرغبة واضحة لاستغلال الأقباط فى الأحداث، والكنيسة المصرية كنيسة وطنية لا تنغمس أبدًا فى هذا».
وجاء يوم 7 أبريل، أحد أشد الأيام إيلامًا فى تاريخ الكنيسة بل مصر كلها فحدث الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية فاهتز للحدث وجدان كل الشعب، فهذه الكنيسة المصرية أقدم كنائس إفريقيا وأكبر كنيسة فى الشرق الأوسط تحاول جماعة الظلام المساس بها، لم يكن غضب المصريين فقط حزنا على على استشهاد اثنين وإصابة 90، أو لأنها أحداث جاءت فى أعقاب صلوات الكنيسة على أرواح شهداء الخصوص، بل كان غضبا شعبيا وطنيا للمساس بكنيستهم، لكن مع هذا كان البابا يتمتع بنظرة سباقة.. وأمل من نوع خاص اكتسبه من لقائه بالفريق السيسى آنذاك وزير الدفاع، فكان ينتظر مستقبلا تشرق فيه شمس جديدة للدولة مرة أخرى، لذا كانت عبارته الخالدة لتهدئة الغضب «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن».. لم تتوقف رؤية البابا فى الحفاظ على الكنيسة والدولة عند تهدئة الغضب الشعبى، بل حرص قداسته ورغم كل ما حدث أن تظل الكنيسة مؤسسة وطنية من أجل الشعب المصرى تنير فكره، فاتفق مع الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أن يذهبا إلى محمد مرسى حتى ينقلا له حالة الغليان الشعبى وليتعرفا من اللقاء على طبيعة رؤيته للأمور والأحداث، وتمت الزيارة فى 18 من يونيو 2013 ليخرج البابا بنتيجة مفادها أن لا حل متضرعا إلى الله بإنقاذ الوطن.
صبر ومثابرة.. فى حب مصر
وجاءت لحظة الخلاص وتحركات الإرادة الوطنية فى ثورة الشعب الخالدة فى الثلاثين من يونيو ومعها حاولت الجماعة الإرهابية تفكيك المصريين بضرب وحدتهم خاصة عندما أيقنت قوة موقف الإقباط وعموم المصريين فى مواجهة تيارهم المتطرف، اتخذوا العداء ضد كنيستنا المصرية منهجا أساسيا مستهدفين ضرب شخصية مصر فى عمقها بأحداث لم يتحملها مصرى واحد.
وبلغ العداء ذروته فى يوم 14 أغسطس 2013 لما نفذت الإرادة مصر فى التخلص من مرضها العضال بفض الاعتصام المسلح فى «رابعة» و»النهضة» قررت جماعة الدماء تنفيذ وعيد المنصة بإشعال مصر، وسجلت الإحصائيات الرسمية 90 واقعة من الاعتداء على الكنائس والمنشآت القبطية التى دمرها الإخوان.. أحرقت جماعة الإخوان الإرهابية ما يقارب 64 كنيسة فى هذا اليوم فضلا عن الاعتداءات التى تمت فى 17 محافظة فى وقت متزامن وممنهج.. وفقدت مصر 14 مسيحيا استشهدوا فى عمليات الاعتداء على الكنائس، لم تتوقف جماعة التطرف عند ذلك بل استولت على سيارات المطافى والإسعاف لمنعها من إطفاء الكنائس أو إسعاف المصابين المسيحيين.
كان قداسة البابا قد أكمل فى هذا التوقيت الشهر التاسع له فقط كبطريرك للكنيسة، يجلس فى دير مارمينا يتلقى المهاتفات بحريق هنا واعتداء هناك، لكنه يجلس بهدوء واتزان يبثه فى نفوس المحيطين به، هو يكتب على ورقه الأبيض أمامه عدد الاعتداءات، ويكتب على مفكرته عبارات خالدة فى صفحات تاريخ مصر المشرق.. ففى وسط هذا كله يبعث قداسته برسالة التوضيح لجموع الأقباط قائلا «لو حرقوا الكنائس سنصلى بجانب إخوتنا فى المساجد.. ولو حرقوا المساجد سنصلى مع المسلمين فى الشوارع».واستمرت المحاولات الإرهابية بتفجير وإحراق كنائس بعد ذلك وظل البابا فى هذا كله هادئا رصينا مستشرفا المستقبل مكررا عبارته أن وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن..فأصبحت الكنيسة القبطية درع واقى لمصر تحطمت عليه مخططات التدمير من جماعة الإرهاب وغيرها، وليؤكد البابا أنه بحق بابا الوطنية.
مبادئ المحبة.. وفلسفة البناء
لم يكن لنا أن نتأمل وطنية شخصية البابا تواضروس دون التوقف عند المحبة فى مسيرته، لا سيما وأن شــــعاره «المحبة لا تســـقط أبدًا» «1 كو 13: 8»، والمحبة فكرة أساسية قام البابا بزراعتها بعدد من الطرق.
أولها المحبة الوطنية، فقداسته رسخ هذا المبدأ ليصبح عالقا فى الأذهان فجعل الوطن وحبه شاغله، وخلق الحب بين أفراد المجتمع هدفه، حتى أنه أراد أن كان حاضرًا لافتتاح مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى 2014 ليؤكد أن التخلص من الجماعة الإرهابية انتهاء لعهد الظلام وعودة لجذور المحبة، والتى يؤكده للمجتمع بعلاقة خاصة دافئة مع شيخ الأزهر.
الأمر الثانى هى المحبة بين الطوائف المسيحية، وقد اتخذ قداسته ضمن أهدافه إيجاد التقارب بين الكنائس لتحقيق وحدتها كما أراد لها الله، مؤكدا أن الرسالة التى جاء بها المسيح هى رسالة المحبة، والاجتماع دائما على الكتاب المقدس لذا من المهم خلق الوحدة.. ثم يتبنى قداسته فى فلسفته أهداف البناء فيذكر أن الاصل فى الكنيسة واحدة، لكن مع الزمن ومع الانقسامات ومع العوامل المختلفة نشأت الانقسامات التى لابد من تجاوزها على اساس الحوار.. وهو ما يبذل قداسته فيه مجهودا خاصا بزيارات متعددة لكل دول العالم بدأت بأولى زياراته إلى الفاتيكان والتى ردها بابا الفاتيكان إلى مصر فى 2017، كما يستضيف قداسة البابا كل عام أسبوع الصلاة العالمى من اجل وحدة الكنيسة.
لا يحرص فقط على خلق التقارب العالمى فى جولاتها بل يعمل كذلك على التواصل مع الطوائف داخل مصر مؤكدا أن هدف الكنيسة هو البناء، وأقام لهذا عددا من الأعمال الممتدة على رأسها إطلاق مجلس كنائس مصر الذى تم انشاؤه فبراير2013ويضم الكنائس المصرية الخمس.
الأمر الثالث فى محبة قداسته هى محبة شعب الكنيسة بما يتيحه من مساحات مفتوحة للحوار والمناقشة وطرح الأسئلة والدعم الرعاية لكل ابنائه وفتح العديد من أبواب التواصل معهم، إلى جانب التعامل مع الأطفال والتواصل معهم وإنشاء الفعاليات المختلفة لتنمية قدراته، وتكريم الشباب والعناية بطاقاتهم، وهو ما لا يقتصر على شباب الكنيسة فقط بل لشباب مصر مكانة خاصة فى محبة البابا.
راعى الشباب المصرى
ثم اتخذ قداسته من الشباب أولوية قصوى لديه ليس فقط الشباب القبطى بل الشباب المصرى بوجه عام، فكانت عظاته تمتد بشكل عبقرى لمهارات خاصة.. فمرة يتناول القيادة وكيفية التأهل لها.. ومرة أخرى يشرح إدارة فرق العمل وكيفية الانسجام فى فريق.. وكأنه يقدم محاضرات لا نظير لها فى التنمية البشرية ولكن بمنظورها الفعلى الذى يعرض بإلمام ثقافى طبيعة بيئات العمل محليا ودوليا.. يناقش بمعرفة خاصة طبيعة النفس فى مراحلها المختلفة وتحديات رحلة التفوق، يشرح محطات الإحباط وفقدان الثقة والشغف وكيفية التعامل مع اليأس اللحظى، هو يأخذ المستمع له فى رحلة لبناء الذات واستكشافها، فيصبح البابا هو بابا الشباب المصرى الذى يتحدث إليهم فيرجوهم فى تفوق على شباب العالم.. إذا كانت هناك رسالة أساسية يقدمها قداسة البابا تواضروس للشباب، فهى الحفاظ على الدولة المصرية وضمان تقدمها، يشرح بايضاح تحدياتها واعتباراتها ويوضح للشاب الفرد كيف يجعل مصر هى قبلته الأولى.. يفصل رؤيته فى المستقبل ويتطرق إلى إنجازاتها وما حققته، حتى يصبح لدى المتلقى وجبة متكاملة توضح له مسارا واضحا لما يجب عليه.
الملتقيات الشبابية تحظى بأهمية كبرى لدى قداسة البابا خاصة الملتقيات التى تجمع الشباب من مختلف العالم، وقد أسس قداسته الملتقى العالمى للشباب «لوجوس» فى أغسطس 2018 تحت شعار «العودة للجذور» من أجل جمع الشباب القبطى من مختلف أنحاء العالم وقد أقدم على إطلاقه لما أحس ابتعاد المصريين بالخارج عن أصول شخصيتهم المصرية، فأوضح أن الهدف من الملتقى هو منح الشباب جرعات متنوعة: وطنية، تاريخية، سياحية، أثرية، روحية، كتابية، كنسية، شبابية… وذلك فى إطار الهدف الأساسى للكنيسة وهو إعداد المواطن الصالح، للحياة فى الوطن والعطاء له، وذلك داعيًا الشباب لنقل المعرفة والخبرات التى تلقوها عن النماذج المصرية الناجحة لدولهم.
على طريق واحد
منذ أن جلس على كرسى مارمرقس حرص قداسته على استكمال جهود باباوات الكنيسة ممن سبقوه، فهو ليس البابا المجدد فى الأصل بقدر ما هو البابا المجدد فى الأسلوب بما يتسق مع المتغيرات أو ما يستلزمه الطريق للوصول لنفس الهدف.. فى الواقع هناك تشابه كبير بين البابا 117 و118 للكنيسة المصرية حتى فى زيارة الفاتيكان والتى كان البابا شنودة الثالث هو أول بابا قبطى يزور الفاتيكان 15 مايو 1973، وبعدها بأربعين عاما بالضبط اختار البابا تواضروس أن تكون أول زيارة له للفاتيكان.. تميز البابا شنودة فى أذهان المصريين بالقرب منهم والاستماع لهم من خلال العظة الأسبوعية وهو ما استمر عليه البابا تواضروس الثانى حيث اتخذ الأسلوب الذى يتناسب مع العصر والاعتماد على التكنولوجيا، وأصبح الرد على الأسئلة عبر الصفحة الرسمية للمتحدث باسم الكنيسة..تسهيلا على الناس فى الوصول.. هذه المساحات من اتفاق المقصد واختلاف الأسلوب تظهر كذلك فيما يتعلق بالعظة الأسبوعية إذ أن البابا شنوده الثالث كان يحرص على إلقاء العظة الأسبوعية فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، لكن البابا تواضروس اختار لها أن تكون غير ثابتة المكان بما يتيح له أن يمر على مختلف الكنائس ويكون على اتصال مباشر مع شعبه وهو ما ظهر كذلك فى اعتبارات تواصله مع الطوائف الأخرى واستهداف إحداث التطوير.. فهو ذات هدف البابا شنودة.
التشابه بين البابا تواضروس وباباوات الكنيسة يضرب باعماقه إلى التشابه مع القديس مارمرقس، كما ذكرت الصفحة الرسمية للكنيسة من خلال سلسلة «على طريق واحد»، أن القديس مارمرقس الرسول المؤسس، فتح بيته لكل من لجأ إليه سواء كان هارباً من الخوف أو فاقداً للمأوى، فكان بيته يجمع فيه المحبة والرعاية، وعلى خطى مارمرقس، يسير البابا تواضروس، الذى جعل الكنيسة مكاناً يجد فيه كل محتاج أمانه، بأسلوب حديث ورؤية شاملة فقد نظم قداسته خدمة أخوة الرب للحفاظ على كرامة المحتاجين، وأسس نظام «بنت الملك» لرعاية الفتيات ومساعدتهن فى الزواج، بجانب العديد من الأنظمة التى تلبى احتياجات شعب الكنيسة.. ولعل وجود تشابه كبير بين قداسته ومن سبقوه على الكرسى البابوى، وهو ما جعله يستند لتاريخ متصل دفعه لأن تكون الكنيسة فى عهده محققة أعظم الإنجاز.
بصمات خاصة
والواقع أن البابا قدم للكنيسة كمؤسسة بصمات خاصة تشكل إنجازات فريدة ترتبط فى الأذهان عند الحديث عنها بقانون بناء الكنائس وتقنين أوضعها خلال السنوات الماضية فقط وافقت الدولة على تقنين أكثر من 3200 كنيسة ودار خدمة، تحقيقًا لدولة المواطنة التى حولها الرئيس السيسى إلى واقع فعلى، ففى عهده تم تدشين أكثر من 170 كنيسة جديدة داخل مصر وخارجها، إضافة للاعتراف بعدد من الأديرة، وترميم وتأهيل الكنائس المتضررة وقت الجماعة الإرهابية.. بصمات البابا ترتبط كذلك بالعظة الأسبوعية التى أصبحت تحتل مكانة كبيرة لدى جموع المجتمع المصرى، لكنها بدأت منذ بداية توليه للمهام المقدسة. . ففى عام 2013 أسس المركز الإعلامى القبطى،ليكون مسئوليته نشر الوعى والفكر والتعامل مع الاعلام كما عين متحدث رسمى باسم الكنيسة القبطية الارثوذكسية، كما أطلق فى العام ذاته المكتب البابوى للمشروعات، ومكتب سكرتارية قداسة البابا للرعاية الاجتماعية بما يسهل الوصول لمن يحتاج.
ــ رعاية بالأسرة: شهدت الكنيسة فى عهد البابا اهتماما غير مسبوق بالأسرة ودورها بما يتسق تماما ومكانتها فى الكتاب المقدس، وأهميتها للدولة فقام قداسته بوضع منهج معتمد وتحديد مراكز معتمدة لاستخراج شهادات لازمة للارشاد الاسرى والمشورة لاتمام الزواج.
كما قام بإنشاء ستة مجالس اكليريكية اقليمية بدلا من واحد فقط ينوب فيها عنه البابا أحد الاساقفة أو المطارنة، والتى تستهدف حلحلة مشكلات الأسر.
ــ الاهتمام بذوى الهمم والأطفال: فى عهد قداسته شهدت الكنيسة اهتماما كبيرا بخدمة الصم والبكم وذوى الاحتياجات الخاصة باستقبال مجموعات منهم وافتتاح مراكز متخصصة فى الايبارشيات المختلفة لهم، واهتم كثيرا بالأطفال فتم افتتاح قناة «كـوجى»
أنشئت فى عهد قداسة البابا تواضروس أكبر كنيسة فى الشرق الأوسط كاتدرائية ميلاد المسيح والتى تم افتتاحها فى 2019 كرمز لدولة المواطنة تنفيذاً لوعد الرئيس كما يذهب إليها الرئيس السيسى الذى يحرص على الذهاب إليها فى قداس عيد الميلاد المجيد، كأول رئيس يقدم التهنئة للأقباط فى الكاتدرائية.
وطوال الـ11 عامًا تميزت العلاقة بين الرئيس السيسى والبابا بالمودة والحب والاحترام القائم على الوطنية والحرص على المصلحة العليا للوطن.
وفى عهد قداسة البابا تحديدا عام 2021 تم تدشين الموقع الرسمى للكنيسة القبطية والذى يتيح المعلومات الموثقة والمعارف المجانية لكل من اراد البحث عنها، ويتاح عليها مؤلفات قداسته ومن أبرزها بالإضافة إلى درس من عظة، مفتاح العهد الجديد، الفـنون الكتابية، لآلئ الحياة، صفحات كتابية، بصمات قداسته هى معبرة بشكل واقعى عن مدى ثقافته التى تكونت منذ نشأة فريدة.
عبقرية الاختيار الإلهى
لقد كانت نشأة قداسة البابا مؤهلا عظيما لتكوين هذه الشخصية القادرة على إحداث كل هذا الإنجاز، فقد ولد وجيه صبحى «قداسة البابا تواضروس» بالمنصورة فى 4 نوفمبر 1952 لأب يعمل مهندس مساحة، ولأم تلقت التعليم الأولى فى دير القديسة دميانة، انتقل مع الأسرة من المنصورة إلى سوهاج ثم دمنهور ومنها إلى الإسكندرية.
فى الإسكندرية درس الصيدلة بجامعتها وتخرج فيها حاصلا على البكالوريوس سنة 1975، لم يكن اختياره للكلية بمحض الصدفة بل عبر عن طبيعة تكوين شخصية إنسانية تحمل النبل فى نشأتها، فكان يحلم بأن يصبح صيدلانيًا، لأنه كان يرى أن الصيدلى هو شخص «بيريح الناس».
التحق «د.وجيه» بالكلية الاكليريكية وتخرج منها عام 1983، ليحصل على زمالة «الصحة العالمية» بعدها بعامين فى 1985، ثم يذهب فى العام الذى يليه إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون طالبا للرهبنة وظل كذلك لمدة عامين تقريبًا، يخدم فى مبنى الضيافة وبجوار مضيفة استقبال الزوار لتقديم الطعام وخلافه وصيدلية الدير.
وترهبن عام 1988ثم بدأ بعدها بعامين خدمته كراهب كاهن فى ايبارشية البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية، ليصبح فى 1997 تمت سيامته أسقفاً عاماً لخدمة الشباب ومسئول لجنة الطفولة بالمجمع المقدس، الأمر الذى كان له بالغ الأثر فى التكوين الوجدانى لقداسة البابا بعد ذلك واتخذ من ملفى الطفولة والشباب هدفا أساسيا لكل ما يقوم به من عمل باعتبارهم الركيزة الأساسية لصناعة المستقبل.
تمر الأيام يكتسب فيها نيافة الأنبا تواضروس مزيدا من المعرفة والخبرة بتكوينات الشخصية المصرية وعبقرية تفرد هذا الوطن لتكون لدى قداسته رؤية ثاقبة وفلسفة راقية ظلت كامنة فى عقل نيافته، ثم تنيح قداسة البابا شنودة الثالث فى مارس 2012 ليصبح الأنبا تواضروس مختارًا ضمن 3 لدخول القرعة الهيكلية.
والقرعة وفق الطقس الكنسى يسبقها صوم عام من الدرجة الأولى لمدة 3 أيام، وفى يوم الأحـد 4 نوفمبر 2012 وضعت 3 ورقات فى ثلاث كرات زجاجية مختومة بالشمع الأحمر، ثم وضعت فى إناء زجاجى كبير على منصة مرتفعة واختيار طفل معصوب العينين بقطعة قماشية داكنة مطبقة عدة مرات، ثم بعد الصلوات، سحب الطفل ورقة من الـ3 والتى أعلن فيها الأنبا تواضروس بطريركاً للكرازة المرقسية، وليصبح يوم مولد قداسته هو يوم اختياره فى القرعة.
اختيار قداسة البابا هو اختيار إلهى اتسق تماما مع ما تحتاجه الدولة المصرية فى هذا الحين من تاريخها، ليس فقط للتحديات والصعاب التى واجهها قداسة البابا بمواقف تاريخية لا تنسى أبد الدهر، ولكن لما يرتسم من خارطة للمستقبل، يستهدف فيها التأسيس للجمهورية الجديدة بفكر خلاق متقد يتسق ومتطلبات هذا الانطلاق.
فما نحتاجه اليوم كما يؤكد الرئيس السيسى دائما أن يصبح داخل فكر المواطن المصرى أمال الدولة وآلامها، وعظمة تاريخها ومكتسبات شعبها، مع فهم لمتغيرات العصر ومستجدات اللحظة، إلى جانب التمسك التام بطبيعة الهوية المصرية المرتبطة بفهم عميق للدين كعلاقة للإنسان بربه من أجل بناء وطنه باعتبارها الغاية الأسمى فى تعمير الملكوت، وما قدمه ويقدمه صاحب القداسة البابا تواضروس الثانى، كأنه تحقيق إعجازى لكل هذه المتطلبات، تتجلى فى شخصه على أرض الواقع، بما يشكل من شخص قداسته النبراس الحى فى طريق الوطنية لمن أراد أن يقدم للوطن ما يليق به، ويشكل فى حديثه وعظته المرجعية لشباب مصر ليكون على قدر تطلعات وطنهم.