تحت شعار من أجل الوطن والمواطن، وبناء جمهورية جديدة تتسع للجميع، فى ظل تحديات إقليمية وعالمية. عقد الحوار الاقتصادى جلساته المتخصصة كبداية لمرحلة جديدة أبرز ملامحها، مساحات مشتركة، من أجل الوصول إلى مخرجات جدية تخدم الوطن والمواطن، وذلك استجابة لدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي. الذى ضرب المثل أول أمس خلال احتفالية قادرون باختلاف فى نسختها الخامسة فى التأكيد على مواصلة الدولة منهجها الثابت، المعتمد على النظرة الإنسانية الرحيمة للفئات الأضعف بالمجتمع، كفرصة لتدبر عظمة الله وقدرته فى خلقه، وكفرصة للتفكير فيما يجب أن نفعله، وكيف نفعله، وكفرصة للتلاحم بين الجميع، حتى نستطيع تقييم المسارات المعدة أو المفروضة بالكيفية التى تضمن تشخيص الأزمة وعرض بدائل الحل، وهو ما نتمناه خلال جلسات الحوار الاقتصادى التى تضمنت جلسات مهمة عن هيكل وعجز الموازنة، وسبل التعامل مع الدين الخارجي، وكيفية زيادة الإيرادات العامة للسياسة الضريبية.
نعلم جميعاً أن عملية تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد موجه، إلى اقتصاد مفتوح يعتمد اعتماداً كبيراً على قوى السوق والمؤشرات السعرية الناتجة عنه، وهو ما ألقى بظلاله على إدارة القطاع المالى للحكومة من جهة والسياسات النقدية من جهة أخري.
وهو ما يجعلنا ننظر إلى أن نجاح السياسة المالية يعتبر معياراً للحكم على سلامة الاقتصاد وقدرته على جذب رءوس الأموال بشقيها المولدة وغير المولدة لأعباء.
فعلى مستوى العالم يقدر الناتج المحلى الإجمالى للعالم لعام 2023 بـ104.4 تريليون دولار، بينها 43.5 تريليون دولار نصيب الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، التى تنتمى لها دول مجموعة بريكس. ويقدر إجمالى الناتج المحلى الإجمالى للدول الـ 6 المنضمة لبريكس بـ3.11 تريليون دولار، بينما وصل مجموع الناتج المحلى الإجمالى لدول بريكس الـ5 الأولى فى 2023 بـ25.78 تريليون دولار، ما يعنى أن الـ11 دولة تمتلك ناتجا محليا إجماليا يقترب من ثلث الناتج المحلى الإجمالى لجميع دول العالم. وفى المقابل تخطى حجم الدين العام حاجز الـ 313 تريليون دولار نصيب الدول المتقدمة أكثر من 65٪ والباقى للدول النامية. الأمر الذى يشير إلى تضاعف الدين كنسبة إلى الناتج، والملفت للنظر استمرار ارتفاع نسب الدين العالمى إلى إجمالى الناتج المحلى لعقود من الزمن قبل الجائحة. وتضاعف الدين العام العالمى ثلاث مرات منذ منتصف سبعينات القرن الماضى والملفت للنظر أيضاً أنه فى الاقتصادات المتقدمة، بلغ الدين العام مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. وفى الأسواق الصاعدة، تراكمت الديون إلى مستويات لم نشهدها منذ أزمة الدين فى الثمانينات. وهناك 40٪ من الدول منخفضة الدخل بلغت مرحلة المديونية الحرجة، مما يمكن معها أن يحدث اضطراباً كبيراً فى النشاط الاقتصادي. كما أنه من الملفت للنظر أيضاً أن العوامل الجيوسياسية برزت بسرعة باعتبارها مخاطر سوقية هيكلية، حيث أثار التشرذم الأعمق مخاوف بشأن الانضباط المالى فى جميع أنحاء العالم، وقد يؤدى تسارع الصراعات الإقليمية إلى زيادة مفاجئة فى الإنفاق الدفاعي.
وعند مقارنة مصر بدول العالم خاصة الناشئة، نجد أن الدول ذات الاقتصاد الناشئ يتراوح نسب الدين ما بين 100٪ من الناتج و150٪.
وبالنظر للحالة المصرية نجد أن الدين العام بشقيه المحلى والخارجى مازال فى الحدود الآمنة حيث تبلغ نسبة الدين الخارجى إلى الناتج المحلى الإجمالى نحو 37٪، ونحو 85٪ بالنسبة للدين الداخلي، وهى نسب مازالت أقل من 150٪ كمتوسط متعارف عليه. وفى السياق ذاته، عندما تصل قيمة الناتج المحلى إلى 10 تريليونات جنيه «400مليار دولار تقريباً»، فإن إجمالى الدين الخارجى الحالى يمثل ثلث الناتج المحلي، أى أن الدولة المصرية قادرة على السداد. ولكن يتضح أن ارتفاع خدمة الدين العام الذى يستحوذ الدين المحلى على الحصة الكبرى منه، بالتزامن مع اتباع سياسة نقدية انكماشية اعتمدت على رفع سعر الفائدة وربط الفائدة بالبنوك مع الفائدة على أذونات الخزانة.
فالمعضلة الحقيقية فى أزمة الدين العام، هى أعباء خدمة الدين. حيث بلغ حجم المخصصات لبند الفوائد فى موازنات العامة ما يعادل 37,4٪ من المصروفات العامة للسنة المالية الجديدة، وهو ما يعنى أن الدين العام لن يتوقف عن النمو طالما كان هناك عجز فى الموازنة، وبصورة عامة كلما كان الدين العام كبيراً زادت مدفوعات الفائدة. أما بالنسبة للدين العام الخارجى فقد تتمثل الخطورة الأساسية فى تقارب آجال الدين خاصة وأن ما طرأ على السياسات النقدية الدولية وبخاصة الدول الكبرى دفع بتخارج رءوس الأموال الساخنة والتى تقدر بنحو 22 مليار دولار خلال الربع الأخير من العام المالى 2021/2022 وهو ما تسبب فى حالة من الارتباك قصيرة الأجل.
فالدين الخارجى طويل الأجل يمثل 83.3٪ من إجمالى قيمة الدين، فيما يستحوذ الدين قصير الأجل على 16.7٪ من إجمالى قيمته، الأمر الذى يشير إلى الطمأنة قدر الإمكان تجاه الالتزامات قصيرة الأجل. كما أن الدين الخارجى المصرى يتوزع بنسب تتراوح ما بين 65٪ دولار أمريكى ونحو 15.7٪ وحدات السحب الخاصة، ونحو 10.9٪ عملة اليورو فيما تتضاءل العملات الأخرى مساهمة فى رصيد الدين الخارجي.
ومن خلال الإطلاع على النماذج التنموية العالمية ندرك أنه ليس كل الدين سيئاً. فالاقتراض يمكنه بالفعل تمويل الاستثمارات الحيوية فى البنية التحتية والصحة والتعليم وغير ذلك، ويؤدى الاستثمار فى الطاقة الإنتاجية إلى تحقيق دخل أعلى يمكن أن يعوض تكلفة خدمة الدين. وقد ساعد بعض الارتفاع فى الدين، وخاصة فى الاقتصادات المتقدمة، على دعم النمو فى أعقاب الأزمة المالية العالمية وتجنب حدوث نتيجة أسوأ. ولكن تنشأ الازمة حين يكون الدين مرتفعاً بالفعل والموارد المستمدة من القروض الجديدة لا تنفق بحكمة «وذلك لأسباب منها الفساد وضعف المؤسسات»، وهنا نؤكد أن كفاءة سياسة الدين العام تعتمد على تنويع مصادر الاقتراض، سواء تنويع العملات أو الدول المانحة.
وحتى نستطيع وضع أفضل السبل لمواجهة ارتفاع الدين الخارجى فى مصر، فإنه يجب على المجموعة الاقتصادية المصرية التعرف وبعمق على أسباب هذا الارتفاع.
وهو ما ستناوله فى المقال القادم إن شاء الله.