أشعر أن الخطوط الحمراء تلاشت، والعناوين الكبرى تبدلت، فمن «مربع الثوابت « انتقلت الكثير من المفاهيم إلى «مربع المتغيرات»، ومن المربع الأخير تسللت الكثير من «المتغيرات» باحثة عن فرصة للصعود على أكتاف العبث وتتحول إلى «ثوابت «بيد أن الجميع خلع قفازاته الاستراتيجية وألقى بها على قارعة الطريق فى انتظار ما ستسفر عنه تلك الدوامات العاصفات والرياح العابثات.
>>>
فعندما يتحدث ترامب عن رغبته فى تعديل الدستور الأمريكى الذى تقترب قداسته عند الأمريكان من نصوص الكتب السماوية ، وعندما يتحدث نتنياهو عن ضم الضفة الغربية إلى أراضى دولته المحتلة دون خجل ، وعندما تتحدث قيادات الادارة الأمريكية المحتملة بهذه الجراءة والوقاحة عن دعم نتنياهو الكامل دون مراجعة او محاسبة لما جرى ويجرى فى الضفة الغربية والقطاع، وعندما نتابع التحركات الإيرانية الأخيرة مع الولايات المتحدة ودول الخليج والاتحاد الأوربى والتى تحمل لغة جديدة تنحو فى اتجاه ابتلاع الالام واعلاء قيم ضبط النفس ، وعندما نجد الاتحاد الأوروبى يعيش على أطراف أصابعه بحثا عن حماية دائمة دون ابتزاز ، وعندما نتابع أخبار حلف الناتو ونقرأ سطور الترقب والقلق لما هو آت بعد وصول ترامب إلى السلطة ، عندما نرى دعما كوريا شماليا معلنا لروسيا فى حربها الضروس ضد أوكرانيا ، ومع كل ذلك نرى صعودا لليمين المتطرف فى أوروبا والولايات المتحدة حاملا افكارا عنيفة لصالح الدولة الوطنية وبعض المبادئ المرتبطة بالأسرة والإجهاض وغيرها من تلك الأفكار التى تتناقض مع حملة مباخر النيوليبرالية.
>>>
كل هذا يعنى أن الجميع ألقى بقفازات ثوابته ومبادئه واستراتيجياته على الأرض فى انتظار القادم ، هذا القادم لا يعرفه أحد ولا يستطيع احد أن يستشرفه ويتوقعه ، فالمشهد ضبابى والسحب الداكنة تغطى الأجواء ، بيد أن هذه الفترة من حياة العالم سيقف عندها التاريخ طويلا بالبحث والدراسة ، كيف وصل العالم – دوله ومؤسساته – إلى هذه المنطقة الضبابية؟ وكيف سيخرج منها سالما ؟ التاريخ علمنا ان هذه الحالة شديدة التعقيد لن يتم الخروج منها دون حدث ضخم على غرار الحروب العالمية التى تستطيع من خلال نتائجها رسم الخارطة من جديد وفق القواعد الجديدة التى تحددها نتائج تلك الحرب ، لكن هناك من يرى أن ما يمكن ان تحققه نتائج تلك الحرب يمكن ايضا ان يتحقق بدونها ومن خلال آليات الحروب التكنولوجية الحديثة ، وما يطلق عليها حروب الجيلين الرابع والخامس.
>>>
بين هذه الرؤى والآراء توجد العديد من الآراء المسطحة والمعمقة ولكل رأى وجاهته ، فلا شئ مؤكداً ، وطالما الأمر كذلك دعونا نلق بقفازات التردد والانتظار ونفتح أعيننا على ما بين سطور الأحداث ربما وجدنا اجابات تقودنا إلى الفهم الصحيح والقدرة على استشراف المستقبل الذى تشوهت ملامحه بفعل هذه الضبابية الشديدة .