رغم أن أمنيات الموتى لا تتحقق ..لكنها حقيقة واقعة.. فما ميت إلا ويتمنى العودة للحياة الدنيا؛ محسنا كان أو مسيئا، فالمحسن من روعة ما رأى من الجزاء يتمنى لو يرجع للدنيا فيضاعف حسناته لترتفع منزلته فى الجنة، حتى الشهيد رغم أنه الأعلى منزلة عند الله فإنه يتمنى لو عاد للدنيا ليقتل فى سبيل الله مرة ومرات لروعة ما رأى من منزلته عند ربه.. وفى المقابل يتمنى الظالم والمقصر فى حق ربه ونفسه لو عاد إلى الدنيا فيعدل عن ظلمه وسيئاته إلى الإحسان والعمل الصالح من هول ما يرى من عذاب الآخرة -وقانا الله وإياكم شرها- .
لكن المدهش حقا أن الأمانى المستحيلة بعد الموت كانت قبله ممكنة وفى متناول كل إنسان بل كانت تكليفا ودعوة بعث الله من أجلها الرسل والأنبياء لأقوامهم.
لكن اللافت حقا أن يختار الميت الصدقة لو رجع للدنيا كما قال تعالي: «رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين».. فلماذا الصدقة دون غيرها ..لماذا لم يقل الميت مثلا « فأعتمر» .. أو لأصلي.. أو لأصوم..؟!
يقول أهل العلم.. ما ذُكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.. فأكثروا من الصدقة.. فإن المؤمن يوم القيامة فى ظل صدقته.
ولا عجب والحال هكذا أن يتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس يقول الله تعالي: «لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسني…».
أما لماذا الصدقة على هذا القدر من الأهمية عند الله تعالي..؟!
والجواب أن ذلك مرجعه أن النفس الإنسانية طبعت على الشح والبخل وحب المال والشهوات.. يقول الله تعالي: «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون».. ويقول الله تعالى «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنغام والحرث…»..فإذا كان ذلك كذلك فإن أفضل الصدقة ما كانت فى أيام صعبة .. وما أكثر المحتاجين فى زماننا الذين جعل الله لهم نصيبا معلوما فى أموال الأغنياء والقادرين؛» من الزكاة والصدقات….فأنفق ولا تخش الفقر فخزائن الله ملأى لا تنفد.. فإذا أردت الشفاء فتصدق لقول النبى صلى الله عليه وسلم:» داووا مرضاكم بالصدقة» وإذا أردت تحصين مالك فعليك بإخراج الزكاة: «وحصنوا أموالكم بالزكاة.. فإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله إلى قلب مسلم..فتصدق ولو بابتسامة حقيقية فى وجه مكلوم أو محزون وما أكثرهم فى زماننا..!!
وظنى أن البشرية ما شقيت إلا لأنها نسيت الفقراء فى سعيها المحموم وراء المال والثراء؛ فما جاع فقير إلا ببخل غني..ولو أن الأغنياء عرفوا الدور الاجتماعى لرأس المال فأدوه ما وجدنا فقرًا مدقعاً، ولا مشردين لا مأوى لهم..فما قيمة أن تعيش منعماً فى مجتمع يشقى فقراؤه بشظف العيش..فهل يمكن أن تأمن على نفسك ومالك بينما هناك من يحقدون على غناك ويسخطون على قلة ما فى أيديهم.
الصدقات علاج سحرى لأمراض اجتماعية وطبقية يغفل عنها كثير من أصحاب الأموال فى زماننا؛ الذين جبلت نفوسهم على حب المال والسعى إلى كنزه، فمن أنفق ماله وخالف ما جُبِل عليه، كان ذلك برهان إيمانه وصحة يقينه، وفى ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: (والصدقة برهان) أي: برهان على صحة إيمان العبد، هذا إذا نوى بها وجه الله، ولم يقصد بها رياء ولا سمعة.
وليس أدل على عظمة الصدقة ونفعها من أن الله تعالى جعل الإنفاق على السائل والمحروم من أخص صفات عباد الله المحسنين، فقال عنهم: «إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفى أموالهم حق للسائل والمحروم» (الذاريات:16-19)، ووعد سبحانه -وهو الجواد الكريم الذى لا يخلف الميعاد- بالإخلاف على من أنفق فى سبيله، فقال سبحانه: «وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين» (سبأ:39)، ووعد بمضاعفة العطية للمنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافاً كثيرة، فقال سبحانه: «من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة»(البقرة:245).
وللصدقة نفع عظيم وأثر خطير؛ فهى ترفع صاحبها، حتى توصله أعلى المنازل، قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقى فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل» .
والصدقة تدفع عن صاحبها المصائب والبلايا، وتنجيه من الكروب والشدائد، قال صلى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف تقى مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف فى الدنيا هم أهل المعروف فى الآخرة»
أما أجر الصدقة فهو عظيم ، وثوابها يتضاعف، قال صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كان تمرة، فتربو فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربى أحدكم فُلُوَّه أو فصيله»
كما تطفئ الصدقة الخطايا، وتكفر الذنوب والسيئات، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضى الله عنه: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».
ولا يتوقف فضل الصدقة عند هذا الحد فهى من أعظم أسباب بركة المال، وزيادة الرزق، وإخلاف الله على صاحبها بما هو أحسن، قال الله جل وعلا فى الحديث القدسي: (يا ابن آدم! أَنفقْ أُنفقْ عليك)، والصدقة وقاية من عذاب الله، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
والصدقة أيضًا دليل على صدق الإيمان، وقوة اليقين، وحسن الظن برب العالمين، وبالصدقة يتغلب المرء على نزغ الشيطان الذى يخوفه الفقر، ويزين له الشح والبخل، وصدق الله إذ يقول: «الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم» (البقرة:268).. وها نحن فى شهر طيب ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالي.. كما أننا بعد أيام قليلة على أبواب شهر رمضان الفضيل موسم الخير والبركة والبر فأكثروا من الصدقات وعمل الخيرات ..يقول النبى الكريم: «وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضى عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً»، ويقول صلى الله عليه وسلم:» ما نقص مال من صدقة» كما أن لله ملائكة يدعون للمرء يقولون «اللهم أعط منفقا خلفًا.. اللهم أعط ممسكا تلفًا»..تصدق ولو بشق تمرة..أو بابتسامة صافية تخفف العناء عن المكلومين والمثقلين بالهموم والمتاعب..!!