لقد نشر الإخوان وجماعات التطرف الداعشى فى بلادنا العربية خلال السنوات الماضية ما يمكن تسميته بـ «فقه القتل والفوضي» وهو فقه تطلب ولا يزال – يتطلب – فقها آخر للمواجهة والتصدي.. فقها يحمل الانفتاح والاستنارة ورفض الغلو ونسميه نحن بـ «فقه التجاوز» وهو ذلك الفقه الذى يحمل صحيح الإسلام العظيم بين جناحيه ويحلق بقيمه الأصيلة عاليا رافضا الغلظة والغلو والتى إبتلينا به مع تنظيمات «الإخوان والقاعدة وداعش وآخواتهم».. وذلك لأن التعصّب هو ردّة فكرية، وهو لا يحمى البلاد ولا الدين والمقدّسات بل يؤدّى إلى التفريط فيها.
>>>
وبداية لا يختلف اثنان على أن الأمّة بمقدّساتها وقضاياها الكبرى عاشت خلال السنوات العجاف الماضية «2011 – 2024» سنوات إرهاب داعش والقاعدة وأخواتهما، مرحلة قاسية تحتاج اليوم، إلى فقه وفكر جديد، يدفع فى إتجاه المقاومة القائمة على الانفتاح والحوار والوحدة والتقارُب المذهبى والبعيدة عن الفرقة والتعصّب الذى يضرب فى قلب الأمّة بلا هوادة ويهدّد وجودها ذاته وليس فحسب مقدّساتها.
> إن الأمّة العربية والإسلامية تتعرّض لهجمة شرسة تستهدف مصالحها ومقدّساتها، ولهذه الهجمة مظاهر وتجلّيات واضحة فى نقاط وبؤر السخونة الرئيسية وبالتحديد فى غزة وسوريا وفلسطين والعراق وشمال سيناء وليبيا، حيث تتوسّل قوى الإرهاب مدعومة من الخارج لتحقيق تلك الإستراتيجية العدوانية، إستراتيجية الهيمنة بوسائل عدّة لعلّ أبرزها بالإضافة للعدوان المستمر على غزة.. إثارة الفتنة السياسية والمذهبية والطائفية.
>>>
هذا ويمكن القول إن إستراتيجية التطرف والقتل والهيمنة ينظّمها محوران أو مفرقان أساسيان:
الأوّل: هو أن الذين يسيرون فى ركب الاحتلال وضد المقاومة يمثّلون محوراً رئيسياً تنتظم فيه الطوائف والمِلل والنِحل والمذاهب مع المشروع الأجنبى العدواني.
والثاني: نجد المقاومين وبداخلهم أيضاً سنجد مسلمين ومسيحيين، اتجاهات سياسية متعدّدة. وبالتالى يمكن القول إن هذه الإستراتيجية الإسرائيلية والداعشية العدوانية قسّمت الأمّة إلى شطرين رئيسيين، ولعبت فى الشطرين على محاور الفتنة المذهبية والسياسية والدينية وهذه هى القضية الأولي.
> إن التاريخ يحدّثنا عن أن الهيمنة الغربية تأصّلت منذ القِدَم، فمنذ الحروب الصليبية وحملاتها الثمانى التى اجتاحت الشرق وإلى الآن، ما زال الاستعمار يعمل فى المجتمعات الإسلامية بأدوات وأشكال متعددة والإخوان وداعش أحد أبرز تلك الأدوات خاصة فى عقد الربيع العربى الأخير.. ورغم القول بإن الشعوب الإسلامية والعربية نالت استقلالها فإن البحث العلمى يقول إنها لم تستقل بعد طالما ظلّت تابعة ومخترقة فى اقتصادها وسياساتها وثقافتها.
>>>
والقضية الثانية التى على فقه التجاوز التصدى لها.. تأتى قضية الجمود الفكرى وحتمية التجديد والاستنارة فى إطار فهم صحيح الدين والدنيا وعدم ترك ذلك لتنظيمات الدواعش والإخوان.. ولعله مما يؤسَف له أن المذهبية عندنا مذاهب متجمّدة حول نصوص القرآن وأحاديث الرسول، وكأن نصوص القرآن متجمّدة أيضاً وهذا غير صحيح. لأن الإسلام مَرِن، وكذلك يجب أن يكون المؤمن سمحاً ومرناً فى تصرّفاته كلها ولديه الوعي. وينبغى أن يكون لدى الشعوب الإسلامية الوعى لا أن تكون «مُغيّبة».
>>>
> وكما نعلم فإن ثمّة هيمنة أجنبية تسيطر على غالب المجتمعات الإسلامية، وعلى النخبة بكافة مستوياتها، عبء ورسالة تنطلق من الوعى والمسئولية.. وتلك هى المهمة الثالثة فى «فقه التجاوز الذى نقترحه هنا».. وهو فقه يستلزم نشر الثقافة الصحيحة وتنبيه الناس إلى الأخطار الحقيقية التى تُحيق بنا.. ففى الفكر الإسلامى النظرة إلى التعصّب وعدم التسامح، ردّة فكرية، لأن الفكر الإسلامى بطبيعته يقوم على التسامُح. وإذا كان الإسلام قد سمح بوجود اختلاف فإنه أمر باحترام مَن يختلف معنا. فالاختلاف فى الإسلام هو للوصول إلى الرأى الأفضل والأنضج. وليس اختلاف العداوة أو التضاد.
ومن هنا فالتعدّدية سنّة من سنن الله فى كونه. والتسامُح المذهبى سِمة العلماء الكبار. فمثلاً الإمام مالك حينما طلب منه وليّ الأمر أن يضع للناس كتاباً سهلاً تتجنّب فيه الرخص والمشدّدات، وضع كتابه «الموطأ» والذى نال إعجاب العلماء فى عصره. ولكن عندما أراد الخليفة المنصور أن يفرض العمل بهذا الكتاب فى جميع الأمصار رفض الإمام مالك رعاية لأحوال المخالفين له فى الرأي.
كذلك فإن الرسول «صلّى الله عليه وسلّم» سمح بالرؤى المتعدّدة والفَهْم الواعي. فسمح بأن يكون هناك تأويل وعمل بالنصّ فى الحديث المشهور الذى أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه الخاص بصلاة العصر فى بنى قريظة. فهناك من الصحابة من أخذ بنص الحديث ولم يصل العصر إلا فى بنى قريظة رغم مرور وقته. بينما فَهِم البعض الآخر أن المقصود هو الإسراع ولهذا صلّوا العصر قبل أن يصلّوا بنى قريظة وعندما اختلف الفريقان وذهبا للرسول أقر تصرّف كليهما. فهو بهذا سمح بأكثر من رأى وفَهْم. والإمام النووى فى شرحه لصحيح مسلم يقول «اجتمعت كلمة أهل العلم على أن المختلف فيه لا إنكار فيه.
الخلاصة إذن.. نحن فى بلادنا العربية والإسلامية نحتاج وسط التحديات الجسام التى تمر بها الأمة بعد العدوان على غزة وبعد انتشار تنظيمات الغلو والقتل ليس فحسب إلى «تجديد الخطاب الديني» بل إلى فقه أوسع وأكثر رحابة سياسية وثقافية.. نسميه بـ «فقه التجاوز» فمتى نبدأ؟