كلنا يدرك أن الموت آتٍ لا محالة؛ ومع ذلك منّا من يخشاه، ومنا من ينساه، ومنا من يكره ذكره..لكن السؤال الأهم: هل نحب الموت..؟!
هنا تتباين الإجابات، وتتعدد الاتجاهات، فثمة من يحب لقاء الله ولا يرى فى الدنيا ما يستحق أن يتقاتل عليه الناس، ولا ما يستحق عناء العداوة والخصام والشحناء؛ فإذا كان كل ما فيها زائلاً فكيف لعاقل أن يطمع فى البقاء أو الخلود؟!
صحيح أن هناك من يقبل على الحياة بلا حدود، ومن يحرص على الحياة بأى صورة كما قال الله تعالى فى كتابه العزيز :» ولتجدنهم أحرص الناس على حياة»..وهناك فى المقابل من يتمنى الموت؛ رغبة فى لقاء ربه والخلاص من متاعب الدنيا ومآسيها وشقائها.. وهناك من يغرق فى الملذات ولا يشبع منها ولا يطيق سماع سيرة الموت بأى حال!!..
شتان الفارق بين من يخشى الموت وجلاله ورهبته ومن يكره الموت؛ فخشية الموت قد تكون خوفًا من ذنوب لا طاقة لصاحبها بالحساب عليها، أما كراهية الموت فهى ضرب من ضروب الرفض لسنن الحياة ومقاديرها التى لا تتخلف عن إنسان مهما كان؛ فالله تعالى قال لنبيه الكريم «إنك ميّتٌ وإنهم ميتون»..وهذه غاية كل حي؛ ما بعد الموت..فهل استعددنا لهذا اليوم..؟!
هل سألت نفسك يومًا: ما سر انتشار الوهن…؟!
يقول رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت».
هذا الحديث يصف حالة كثير من الناس فى هذه الأيام.. وهذا أخطر ما نعانيه من آفات؛ فرغم أن الموت معلوم من الواقع بالضرورة، فقد مات أجدادنا وآباؤنا، ورحل كثير من أصدقائنا وأحبائنا، من هم أكبر منا سنًا ومن هم أصغر منا.. وقد يأتى الموت فى أقرب لحظة.. فلا يعلم إلا الله متى تنتهى الأعمار.. ورغم ذلك فإن البشرية تشقى بالغفلة عن الموت، وتطغى بنسيان الموت، وتفسد بكراهية الموت.. فانظر لنفسك فى أى ضفة تقف.. هل تؤمن بأنه لا خلود لبشر وأن المنايا كأس سيشرب الكل منها فلا يبقى إلا الحى القيوم المحيى المميت..؟!
الإنسان الفطن هو الذى يدرك أن كل ما له بداية له نهاية.. فالموت غاية كل حيّ، كتبه الله على كل المخلوقات، حتى ملك الموت الذى يقبض الأرواح سيأتى عليه وقت ويموت ولا يبقى إلا الله الحى الذى لا يموت!!..
رغم أننا نعلم يقينًا أننا ميتون فإن بعضنا أو أكثرنا لا يزال يظلم غيره، ويؤذى غيره، ويغويه الشيطان بالتسويف واستبعاد لحظة النهاية التى تقترب شيئًا فشيئًا كلما مرّ يوم من عمر الإنسان!!..
الموت حقيقة وردت فى القرآن الكريم فى آيات عديدة وبصيغ مختلفة فقد ذكرها الله فى أول سورة الملك بقوله تعالى «تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور».. فلماذا الإعراض عن مصير محتوم لا مفر منه..؟!
لست أشك أن أكثر آثام البشر وجرائمهم وخطاياهم إنما وقعت فى غفلة نسى فيها الغافل والمخطيء أنه ميّت، وأن جنازته مؤجلة إلى حين لا يعلم موعده لكن الله يعلمه؛ ولو أن الموت كان حاضرًا فى ذهن الظالم لحظة ارتكابه أى خطأ ما وقع فيه أصلاً، ولعصمه هذا الإدراك من الغواية والمظالم..وما تعرض المظلوم لمعاناة لا ذنب له فيها!!..
الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وهى ليست غاية فى ذاتها وإنما قنطرة للآخرة.. الدنيا دار الاختبار والقرار والآخرة دار الخلود والسعادة أو الشقاء.. الدنيا هى دار العمل والكد والتعب والابتلاء، «يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه».. فلماذا يتصارع الناس على أقل من جناح بعوضة..؟!
وإذا أردنا معرفة الدنيا على حقيقتها فلنقرأ إن شئنا الحديث الشريف عن ابن عمر «رضى الله عنه» ما قال: «أخذ رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بمنكبي، فقال: كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.
فى الموت جلال وعبرة وعظة بليغة لا يعرض عنها إلا من فقد نور البصيرة.. فلماذا ننسى أننا راحلون ويسعى بعضنا فى الدنيا وكأنه مخلّد فيها؛ فيظلم هذا، ويؤذى ذاك، تارة بلسانه وأخرى بيده وثالثة بنفوذه ومنصبه.. ورابعة بقلمه.. وينسى أن العمر لحظة علمنا بدايتها ونجهل نهايتها.. وأن العبرة بالخواتيم والجنازات وإذا أردت أن تعرف قيمة الدنيا فاذهب لأقرب مستشفي، وانظر لأصعب الحالات المرضية وأسأل نفسك: ترى لو كنت مكانه فكيف سيكون شعورك.. فهل تذكر حينها كم أنعم الله عليك بنعم لا تحصى ولا تعد، فذاك مريض يحتاج لزراعة كبد أو رئة أو قلب بمئات الآلاف من الجنيهات..فكم تملك فى جسدك هذا أعضاء طبيعية بملايين الجنيهات وحتى إذا امتلك هذا المريض أو ذاك أموالاً تغنيه وتحقق له المراد: فمن يضمن له الشفاء إذا زرع ما يحتاجه من أعضاء.. ومن يضمن لجسد المريض الذى يحتاج مثلاً إلى زراعة «رئة» أن يتقبلها وينسجم معها ولا يلفظها.. ومن يضمن لجهاز مناعتك أن يعمل لصالح بدنك ولا يهاجم نفسه فيعمل مثلاً على تكسير صفائحه الدموية التى لا يمكن للمرء أن يعيش بدونها!!..
العبرة بالخواتيم؛ والسيرة الحسنة وحب الناس وشهادة الجار لك عند الله؛ فالناس شهود الله على الأرض.. فأحسن لنفسك بعمل يكون شاهداً لك لا عليك، وأحسن فيما بقى من عمرك؛ فيشهد لك الناس بالصلاح بدلاً من أن يتمنوا رحيلك بالموت، وإذا ما رحلت كرهوا سيرتك وشهدوا عليك بالسوء!!..
أفضل ما ينبغى للمرء أن يفعله هو أن يذكر الموت والبلى وأن يستعد للرحيل قبل فوات الأوان يقول النبى الكريم: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».. فهل ما زلت تتمنى وتفرط فى الأحلام والطموحات دون أن تقدم لنفسك عملاً صالحًا يقربك من الله.. وهل تأملت يومًا قول الله تعالي: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا».. هل تحب لقاء الله.. هل تحب الموت وتراه نهاية طبيعية آتية لا محالة.. اللهم إنا نعوذ بك من سكرات الموت وفتنة المحيا والممات!!..