فى غمرة التنافس المحتدم بين مرشحى الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى يتوقع أن تكون الأكثر كلفة فى التاريخ الحديث، يدور صراع أخر لا يقل حدة، بين أثرياء أمريكا.
يعود الصراع بالأساس إلى تصميم كلا الحزبين على الفوز بالسباق بأى ثمن، ومن ثم يفتحون الباب على مصراعيه أمام تبرعات رجال الأعمال الأثرياء فى مشهد متكرر لزواج السلطة بالمال.
فالمليارديرات ينفقون الملايين لرعاية الساسة، الذين يدعمون سياسات ضريبية من شأنها أن تعمل على إثراء رعاتهم من المليارديرات، بحيث يصبح لديهم بعد ذلك المزيد من الثروة الزائدة المتاحة لرعاية السياسيين، وهكذا دواليك، فى حلقة مفرغة لا تنتهي.
وفى الوقت نفسه، يتم التذرع بانخفاض عائدات الضرائب لتبرير سياسات التقشف التى تجعل تمويل برامج الرعاية الصحية والتعليم والتقاعد أكثر صعوبة وبعيدة المنال عن الأمريكيين العاديين.
والحقيقة أن سيطرة المليارديرات على أمريكا ليست بالأمر الجديد، فهم مثل السرطان، ينتشرون فى كل جانب من جوانب النظام الاجتماعى والسياسى والاقتصادى فى أمريكا؛ ويسيطرون على الصحف ومحطات التليفزيون وكافة منصات التواصل الاجتماعي.
وبحسب بيانات لبنك الاحتياطى الفيدرالي، يمتلك نحو 10 ٪ فقط من الأمريكيين ما يقرب من 70 ٪ من ثروة البلاد، وتسمح هذه الفجوة الاقتصادية الهائلة لنخبة صغيرة بممارسة نفوذها على العملية السياسية بما يضمن الحفاظ على مصالحها.
الأكثر تكلفة
فى مايو الماضي، أفادت منظمة «أمريكيون من أجل العدالة الضريبية» أن 50 عائلة من أصحاب المليارات ضخت بالفعل أكثر من 600 مليون دولار فى الحملات الانتخابية الجارية لكلا الحزبين. وبحلول منتصف أكتوبر وصل إجمالى ما جمعته الحملات الانتخابية والمجموعات المتحالفة معها أكثر من 3.8 مليار دولار، من بينها 2.2 مليار دولار لصالح حملة هاريس، و1.7 مليار دولار لحملة ترامب.
وبحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية تبرع المليارديرات بما لا يقل عن 695 مليون دولار، أو نحو 18 ٪ من إجمالى الأموال التى تم جمعها خلال هذه الدورة الانتخابية من بينهم 695 مليون دولار لصالح ترامب و127 مليون دولار لصالح هاريس.
وبصفة عامة يستخدم ما لا يقل عن 144 شخصاً من قائمة المليارديرات فى الولايات المتحدة، المكونة من نحو 800 شخص، ثرواتهم للتأثير على انتخابات 2024. ولكن إيلون ماسك وهو الأغنى عالمياً هو الأعلى إنفاقاً فى هذه الدورة من الانتخابات الرئاسية، بإجمالى تجاوز 130 مليون دولار لدعم دونالد ترامب وغيره من المرشحين الجمهوريين، وذلك وفقاً للوثائق المقدمة إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية الأمريكية. خصص ماسك نحو 119 مليون دولار منها، إلى منظمة «أمريكا باك» وهى لجنة عمل سياسية أنشأها بمشاركة عدد من رجال الأعمال البارزين فى مجال التكنولوجيا لدعم حملة ترامب.
ويعود هذا الدعم الاستثنائى من جانب ماسك لحملة ترامب من أجل الحفاط على مصالح شركاته وتسوية التحقيقات القانونية المتصلة بأنشطتها، فضلا سعيه للحصول على دور استشارى فى البيت الأبيض حال فوز ترامب.
قواعد التمويل
يتم تنظيم تمويل الحملات من خلال سلسلة من القوانين، بهدف كبح الفساد وتعزيز الشفافية، وتعمل لجنة الانتخابات الفيدرالية على ضمان الالتزام بهذه القواعد. ويمكن للأفراد والمنظمات والشركات المساهمة فى الحملات الانتخابية، ولكن هناك حدود لمقدار ما يمكنهم تقديمه مباشرة للمرشحين. يساهم الأفراد عادة بحصة الأسد من أموال حملة أى مرشح معين، ويميل المانحون الأكثر ثراء إلى التبرع بمبالغ أكبر. ومن الناحية القانونية، يمكن للأفراد التبرع بما يصل إلى 3300 دولار لكل مرشح، فى الدورة الانتخابية الجارية.
ويوجد لدى كلا الحزبين لجان على المستوى الفيدرالى وعلى مستوى الولايات لجمع الأموال، كما يمكن للمرشحين أيضاً تمويل أنفسهم، على غرار ما فعل ترامب فى انتخابات 2016.
لجان العمل السياسي
بهدف الالتفاف على القيمة المحددة للتبرعات، أباحت القوانين الأمريكية إنشاء لجان العمل السياسى والتى تلعب دوراً هائلاً فى الانتخابات، حيث تقوم هذه اللجان بجمع المساهمات من الأعضاء ثم تتبرع بها للحملات، ولكن بما لا يتجاوز 5 آلاف دولار لكل مرشح سنوياً. وغالباً ما تمثل لجان العمل السياسى صناعات مثل النفط أو الفضاء، أو تركز على قضايا مثل تغير المناخ.
وهناك نوع آخر من اللجان وهى لجان العمل السياسى الفائقة، التى يتم إنشاؤها، من قبل الأفراد والنقابات والشركات. وعلى عكس لجان العمل السياسى العادية، يمكنها التبرع بمبالغ غير محددة لمنظمات مستقلة مرتبطة بمرشح، ولكن لا يمكنها التبرع للحملات أو التنسيق معها بشكل مباشر.
وتفتح لجان العمل السياسى الفائقة بشكل خاص الباب أمام المساهمات الكبيرة، مما يثير غالباً تساؤلات حول ما إذا كانت الانتخابات تعكس حقاً إرادة الشعب أم إرادة المانحون الأكثر سخاء.
كما أدى صعود «الأموال المظلمة» وهى المساهمات التى لا يُطلب الكشف عن مصدرها، إلى جعل تحقيق الشفافية أكثر صعوبة. وكشفت بعض التقارير عن ارتفاع غير مسبوق فى الأموال مجهولة المصدر خلال الدورة الجارية.
وفى بعض الحالات، توجه لجان العمل السياسى ولجان العمل السياسى الفائقة أنشطتها للتأثير على حزب آخر غير الحزب الذى يدعمه المانحين. فعلى سبيل المثال، تبين أن لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية «إيباك»، التى تهدف على وجه التحديد إلى تمويل المرشحين الذين يدعمون إسرائيل، كانت أكبر مصدر للأموال الموجهة لصالح الديمقراطيين فى الانتخابات التمهيدية الرئاسية فى وقت سابق من هذا العام الجاري، رغم أنها جمعتها من المتحالفين مع الجمهوريين.
تاريخياً كان الأثرياء دوماً هم القوة السياسية النافذة فى النظام السياسى الأمريكي، لكن أضحى الآن مجموعة صغيرة من المليارديرات هم من يسيطرون على الآلة الانتخابية الرئاسية، ما يهدد بانزلاق البلاد إلى نوع من الأوليجارشية «حكم الأقلية» بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة وهم الأفراد الأثرياء للغاية.
ورغم هذه الحقائق المخجلة تواصل الولايات المتحدة دور الوصاية على مختلف دول العالم بذريعة حماية الديقراطية وحقوق الإنسان.