.. تل أبيب تعترف بصراحة هذه الأيام بأنها قد تمكنت من استعادة القدرة على الردع فى الشرق الأوسط.. بفضل أمريكا.. قوة أمريكا.. وأسلحة أمريكا.. وقنابل وصواريخ أمريكية.. وجنرالات القيادة المركزية الأمريكية فى إسرائيل.. لكن كل شيء فى النهاية باسم إسرائيل.. ومن أجل بقاء ووجود إسرائيل.. وأمن إسرائيل لأجيال طويلة قادمة.
.. والهدف النهائى هو إعادة رسم وتشكيل المنطقة.. لصالح إسرائيل.. وحلم إسرائيل فى بناء «الشرق الأوسط الجديد».. وتحقيق حلم شيمون بيريز رئيس وزراء إسرائيل الأسبق.. الذى مات بدون أن يتحقق حلمه الكبير.
.. ولذلك.. فإن إسرائيل سوف تعيش بقوة السلاح وبالحرب.. والاستعداد الدائم للحرب لسنوات عديدة وطويلة قادمة.
.. ويقول الإسرائيلى «إفرايم إنبار».. إنه يوجد فى تل أبيب من تأخذهم روح التفاؤل أحيانًا بإمكانية إشراق فجر «الشرق الأوسط الجديد» الذى تحلم به إسرائيل.. لكن الحقيقة الواقعة فوق أرض الواقع تؤكد أن هذا الحلم الإسرائيلى الكبير.. مازال بعيدًا جدًا ومن الصعب أن يتحقق.. حتى بعد الإنجازات العسكرية التى تحققت فى غزة ولبنان.. وضد إيران.
.. وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية بأن إسرائيل تعتبر فى النهاية «دولة» غريبة.. تعيش وسط بحر هائج من الأعداء الذين يريدون تدميرها والقضاء عليها.
ربما كانت ضربة الانتقام الإسرائيلية الجديدة لإيران خطوة إلى الأمام.. وربما كانت عملية اغتيال قيادات حزب الله وحركة حماس خطوات مهمة لتحقيق أهداف إسرائيل.. لكن الخطوة الكبرى الأهم.. مازالت بعيدة المنال.. وهى ضرورة إعادة رسم وتشكيل خطوط وحدود وخارطة الشرق الأوسط.. لصالح إسرائيل.. ولا توجد وسائل واقعية لتحقيق «السيناريوهات الوردية» للصهيونية العالمية.. سوى القوة العسكرية.. ويقول الإسرائيلى إيرك مانديل إن القوة هى أفضل طريق وأقصر طريق لردع إيران ومنعها من إنتاج القنبلة الذرية.. وهذه القوة العسكرية هى الوسيلة الوحيدة لضمان انفراد إسرائيل بالقدرة على الردع النووى والتقليدي.. وتحقيق الهدف النهائي.. الذى تريده أمريكا.. وهو وقف التصعيد.. ولن يتم وقف التصعيد إلا من خلال تحييد قوة إيران نهائيًا.. كما حدث بعد الاحتلال الأمريكى للعراق.. وكما حدث ويحدث فى سوريا.
وقالت وول ستريت جورنال الأمريكية إن إسرائيل قامت بتوجيه ضربة انتقامية محسوبة بدقة لإيران، هى فى الواقع.. ضربة محسوبة بحسابات أمريكية.. وفى توقيت أمريكي.. لأهداف انتخابية أمريكية، لكن هذه الضربة الانتقامية.. تبدو محدودة فى أهدافها.. لكن جاءت واسعة النطاق.. بمقاييس ما أحدثته من دمار فى مصانع ومواقع الصواريخ الإيرانية الباليستية.
وبذلك يمكن أن تحدث المفاجأة التى لا يريدها أحد.. حاليًا على الأقل فى واشنطن.. ويشهد الشرق الأوسط مرحلة خطيرة من الحرب والتصعيد العسكرى الشامل بين إسرائيل وإيران.
الردع بالتصريحات
.. الحرب المباشرة.. وتبادل الضربات الانتقامية بين إسرائيل وإيران أدت إلى تغيير قواعد الاشتباك بين الطرفين.
.. واليوم.. تحاول إدارة الرئيس بايدن فى أيامها الأخيرة.. إيقاف التصعيد العسكرى ومنع الحرب الإقليمية.
وقد حذر لويد أوستين وزير الدفاع الأمريكى إيران علنًا من ارتكاب أى خطأ فى حساباتها والقيام بأى رد بالصواريخ على الضربة الإسرائيلية.
.. لكن لا يمكن ردع إيران بتصريحات وزير الدفاع الأمريكي.. هنا فى الشرق الأوسط.. كما تقول الصحيفة الأمريكية.. لا أحد يعرف سوى لغة القوة.. والتعامل بلغة القوة المسلحة والحرب.
قنابل ذكية عملاقة
.. وتتساءل الصحيفة الأمريكية لأول مرة.. وتقول لماذا لا تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد إسرائيل بالقنابل الذكية العملاقة زنة 30 ألف رطل.. من طراز جى بى يو 43 ومن طراز جى بى يو 57.. لمساعدة إسرائيل على توجيه ضربات شاملة ومدمرة لبرامج ومواقع إنتاج الصواريخ الباليستية والمنشآت النووية الإيرانية.. وهكذا يتم تغيير قواعد الاشتباك لصالح إسرائيل نهائيًا.. وبذلك يتم تحييد إيران لسنوات طويلة قادمة.
وتعترف وول ستريت جورنال بأن أمريكا قد قدمت لإسرائيل فعلاً كل ما يساعدها على اختراق الأجواء الإيرانية.. خلال الضربة الانتقامية الأخيرة.. واليوم يبدو أن الوقت قد حان كى تقوم أمريكا بتزويد إسرائيل بقاذفات القنابل الإستراتيجية الثقيلة بعيدة المدي لاستخدامها فى حمل هذه النوعية من القنابل الذكية العملاقة للقضاء على برامج الصواريخ والبرامج النووية الإيرانية.. وهكذا.. لن تجرؤ إيران على الرد على أى هجوم إسرائيلي.
.. قد تمتنع إيران نهائيًا عن أية محاولات لإنتاج السلاح النووي.
إذن.. لماذا تستبعد أمريكا هذا السيناريو الحاسم؟
تعترف «وول ستريت جورنال» بأن أجهزة المخابرات الأمريكية قد ساعدت إسرائيل فى اختراق كل شيء داخل إيران.. كل مؤسسات الدولة والبنية الأساسية العسكرية والسياسية فى إيران.. لم يبق سوى خطوة واحدة.. وهى ضرورة أن تتلقى إيران رسالة تهديد واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية بأنها سوف تتعرض لضربة وقائية استباقية ساحقة إذا حاولت إنتاج القنبلة الذرية.. وتهديد وجود إسرائيل بها.
مائة طائرة
.. اليوم تتحدث الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية عن تفاصيل وكواليس ضربة الانتقام الإسرائيلية لإيران.. وقد شاركت أكثر من مائة طائرة إسرائيلية مقاتلة فى هذه الضربة الجوية الخطيرة.. قطعت خلالها مسافة ألفى كيلو متر.
بدأت الضربة خلال الساعات الأولى من صباح يوم السبت الماضي.. تحت اسم كودى «عملية يوم الغفران».
لجأت إسرائيل لعمليات خداع تكتيكي.. قامت من خلالها أولاً بتدمير مواقع الرادارات السورية.. بهدف إصابة الدفاعات الإيرانية بالعمي.. حتى لا ترى أو تشعر باقتراب طائرات الهجوم الجوى الإسرائيلى عبر أجواء سوريا والعراق.
ذكرت التقارير الإسرائيلية أن الموجات الأولى للغارات الجوية الإسرائيلية استهدفت تدمير منظومة صواريخ اس -300 روسية الصنع.. وفتح ممرات جوية لاقتحام سماء إيران بحرية تامة.. وهكذا تم تدمير مواقع الصواريخ الباليستية.. ومصانع إنتاج بطاريات الوقود الصلب اللازم لتشغيل هذه الصواريخ ولا يمكن لإيران استيراد معدات هذه المصانع إلا من الصين خلال فترة زمنية تزيد على 12 شهرًا.
استخدمت الطائرات الإسرائيلية الذخائر الثقيلة.. خصوصًا قنابل جى بى يو 28 المضادة للخنادق والأنفاق العميقة.
.. لكن صحيفةجيروزاليم بوست الإسرائيلية.. تؤكد أن إيران قد تلقت ضربة انتقام إسرائيلية محسوبة بدقة.. وهذا لا يكفى لردع إيران.. وتؤكد أن إسرائيل تمكنت من اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبنانى وكل قيادات حزب الله العليا تقريبًا.. واغتالت إسماعيل هنية زعيم حماس فى قلب طهران.. ولم يبق سوى أن تقوم إسرائيل بعملية الاغتيال التاريخية.. وهى عملية اغتيال البرنامج النووى الإيراني.
وأكدت أن الضربة الانتقامية الأخيرة لإيران حققت نوعًا من النجاح العسكرى قصير المدي.. لكن هناك فرصة ذهبية أفلتت من يد إسرائيل.. حيث كان يمكنها تدمير البرنامج النووى الإيرانى خلال هذه الضربة وحسم الصراع الطويل بين إسرائيل وإيران.. ربما كانت إسرائيل تخشى الدخول فى حرب شاملة مع إيران قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية هذه حقيقة واضحة.
حسابات وسيناريوهات إيرانية
حسابات إسرائيل العسكرية والإستراتيجية أصبحت واضحة تمامًا.. وهى تستعد للرد على أى ضربة صاروخية إيرانية جديدة بأقصى قوة ممكنة.
لكن.. ما هى حسابات إيران..؟! وأين وكيف ومتي.. وما هى احتمالات وسيناريوهات رد الفعل الإيرانى على الضربة الإسرائيلية.. المحدودة سياسيًا.. لكنها واسعة النطاق بالحسابات العسكرية؟!
هل يمكن أن تلجأ إيران إلى الصمت الطويل حتى تلوح أمامها الفرصة المناسبة للانتقام؟!
العالم يتحدث الآن عن المأزق الذى تعيشه إيران وسيناريوهات واحتمالات الرد الانتقامى الإيرانى المضاد.
مسألة وقت
.. يوجد إجماع فى واشنطن حاليًا على أن ضربة الانتقام الصاروخية الإيرانية الثالثة لإسرائيل.. قادمة.. قادمة.. بكل تأكيد.. هى فقط مسألة وقت.
صحيح أن إيران تقلل حاليًا من شأن وحجم الضربة الجوية الإسرائيلية.. وهناك سخرية واسعة فى الشارع الإيرانى من هذه الضربة الإسرائيلية.
وهذه مؤشرات تدل على رغبة إيران فى ضبط النفس.. ولو إلى حين.. واللجوء لعدم التصعيد.. إيران تحاول إخفاء حقائق الدمار الذى لحق بالمواقع التى أغارت عليها الطائرات الإسرائيلية، تمامًا مثلما فعلت إسرائيل حين رفضت الكشف عن الدمار الذى لحق بالقواعد الجوية الإسرائيلية خلال الضربة الصاروخية الثانية فى الأول من أكتوبر الحالي.. بل إن إسرائيل أخفت الدمار الذى لحق بالحى التجارى فى شواطئ تل أبيب بسبب ضربة الصواريخ الإيرانية.
.. وفى كل الأحوال.. كما يقول الخبراء.. فإن دائرة الانتقام والانتقام المضاد بين إسرائيل وإيران سوف تبقى مفتوحة ومتمددة.. وفى النهاية يمكن أن تغرق منطقة الشرق الأوسط فى جحيم نيران الحرب الشاملة.
.. ويؤكد الخبراء حول العالم أن الضربة الجوية الإسرائيلية الجديدة.. هى فى الواقع تنطوى على تصعيد جديد للصراع العسكرى بين تل أبيب وطهران.. وهى فعلاً نقطة تحول فى الصراع العسكرى بين الجانبين.. وفى الوضع الاستراتيجى فى الشرق الأوسط.
فقد تجاوزت إسرائيل خطا أحمر فى استراتيجية الدفاع الإيرانية.
إيران تعتمد على «استراتيجية الدفاع الأمامي».. التى تلجأ من خلالها إلى ميلشيات تابعة لها مثل حزب الله وحركة حماس والحوثيين فى اليمن.. كل ذلك بهدف الاحتفاظ بالصراع العسكرى بعيدًا عن أراضيها.
لكن الضربات الإسرائيلية وصلت إلى عمق أراضى إيران فى طهران وأصفهان.. ومختلف أنحاء الأراضى الإيرانية.
تحديات ومخاطر
.. ويرى الخبراء أن إيران تواجه حالياً تحديات استراتيجية كبري.. وهناك 4 سيناريوهات لاحتمالات ردود الفعل الإيرانية على الضربة الجوية الإسرائيلية الجديدة.
وكل سيناريو له تحدياته ومخاطره وتكاليفه.
أولاً: يمكن لإيران أن تقوم بإعادة حشد وتمويل وتسليح الميلشيات التابعة لها فى حزب الله وحماس وميلشيات الحوثى فى اليمن.. وهذا يتماشى مع «استراتيجية الدفاع الأمامي» الإيرانية.. وبالتأكيد فإن إعادة بناء وتسليح حزب الله اللبنانى يمكن أن يشكل سلاح ردع جديد ضد إسرائيل.
لكن دائرة الانتقام والانتقام المضاد بين إسرائيل وإيران أثبتت وجود حدود قصوي.. فى مواجهة إسرائيل المدعومة من أمريكا دائماً.
ثانياً: يمكن لإيران أن تقوم بإعادة تسليح نفسها بالحصول على أسلحة جديدة متطورة من الصين وروسيا.. والحصول على طائرات مقاتلة حديثة وصواريخ باليستية أكثر دقة وأشد دماراً.
.. ومع ذلك فإن كل المؤشرات تؤكد أن إسرائيل سوف تحتفظ بالتفوق العسكرى والتكنولوجى على إيران.. خاصة ان ميزانية الدفاع الإيرانية محدودة.. وميزانية الدفاع الإسرائيلية لا محدودة.. وهى تعتمد على التمويل الأمريكى المتضاعف.
وكل ذلك يعطى لإسرائيل القدرة والرغبة فى استهداف إيران بضربات جديدة.
ثالثاً: هذا السيناريو يجعل إيران تتجه سريعاً إلى تطوير قدراتها العسكرية وانتاج القنبلة النووية.. وامتلاك إيران القدرة على الردع النووي.. يمكن أن يشكل حاجزاً قوياً وساحقاً.. لردع إسرائيل وأمريكا.. بما يؤدى لوقف أية محاولة للمساس بأراضى إيران من جديد.. سواء من جانب إسرائيل أو حتى أمريكا.
وهكذا.. تتغير كل معادلات الصراع بين إسرائيل وإيران.. مع ذلك.. فإن السلاح النووى ينطوى على نوع أكبر من المخاطر التى يمكن أن تهدد إيران.
.. منها احتمال أن تشترك أمريكا وإسرائيل معاً فى القيام بضربة وقائية استباقية لتدمير واحباط البرنامج النووى الإيراني.. والحقيقة أنه يوجد حالياً سباق محموم بين رغبة إيران فى سرعة انتاج القنبلة النووية.. ورغبة إسرائيل فى التحالف العسكرى المباشر مع أمريكا والقيام بضربة استراتيجية مؤلمة لإيران.
.. وفى كل الأحوال.. فإنه إذا تمكنت إيران من انتاج القنبلة النووية فعلاً.. فإنها سوف تصبح مثل كوريا الشمالية.. معزولة عن العالم.. معرضة لعقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية شاملة.
.. ونأتى للسيناريو الرابع: الذى يتصور فيه بعض الخبراء فى أمريكا وأوروبا.. أن كل ما حدث قد يجعل إيران تعيد التفكير فى الصراع مع إسرائيل.. وتعيد حساباتها.. وتتراجع و«تستسلم» وترفض الدخول فى أية معارك أو حرب جديدة ضد إسرائيل.. وهذا يعنى توقف إيران واقتناعها التام والنهائى بعدم اللجوء إلى التصعيد العسكري.
سيناريو التراجع «الاستسلام».. ويوفر لإيران الفرصة لاستثمار مواردها فى بناء اقتصادها الداخلي.. وتخفيف الضغط الأمريكى – الأوروبى على إيران.. ورفع العقوبات عنها لكن كل الشواهد تؤكد أن سيناريو التراجع الإيرانى مستبعد تماماً ونهائياً فى إيران سواء على المستوى الرسمى أو على المستوى الشعبى لدى الرأى العام الإيراني.
التصعيد الدائم
.. وكل ذلك يؤكد وجود حقيقة واحدة.. وهى أن التصعيد العسكرى الدائم هو الوضع الطبيعى الجديد بين إسرائيل وإيران.. فقد تجاوز الجانبان كل الخطوط الحمراء فى الصراع بينهما.
إيران ضربت إسرائيل بالصواريخ مرتين انطلاقاً من أراضيها وإسرائيل وجهت لإيران ضربات جوية مرتين انطلاقا من أراضيها.. إيران تختبر حدود قوة إسرائيل فى كل ضربة بالصواريخ الباليستية.. وإسرائيل تختبر حدود قوة إيران فى كل ضربة جوية.. وتبقى هناك ملاحظات لخبراء الشئون العسكرية فى باريس وعواصم أوروبا.. وحتى فى واشنطن.
إسرائيل تخوض حالياً حرباً واسعة متعددة الجبهات.. وتمتد فعلاً من قطاع غزة إلى لبنان واليمن وسوريا والعراق.. وحتى إيران.
.. ويقوم سلاح الطيران الإسرائيلى بالدور الرئيسى والحاسم فى هذه الحرب.. وهو تاريخياً الذراع الطويلة لإسرائيل.. كما كان يقول موشى ديان.
قوة الغرور
.. ويبقى السؤال الكبير.. هل حقاً أن إسرائيل قد استعادت القدرة المطلقة على الردع العسكرى فى الشرق الأوسط؟! أم أن غرور القوة.. وقوة الغرور بدأت تطيح بالعقل الإسرائيلي؟!!