عندما قامت حرب أكتوبر المجيدة، كان المخرج الكبير محمد فاضل فى بيته مثل الملايين يتابع الحدث العظيم ويشعر بالغيرة، لأن المطرب والملحن والشاعر يمكن لهم تقديم أغنية فى ساعات قليلة، لكن العمل الدرامى لابد أن يأخذ وقته، وهو يريد أن يشارك فى مهرجان الانتصار الكبير.. وجاءت الفكرة من استعراضات الجيش الاسرائيلى التى كان يقدمها كل عام فى ذكرى اغتصاب فلسطين وتحويلها إلى دولة صهيونية، واكتملت أركانها بعد وقوع القائد الاسرائيلى عساف ياجورى فى أيدى المصريين أسيراً.. فى يوم ٨ أكتوبر عندما تصدى العميد حسن أبوسعدة قائد الفرقة الثانية مشاة بالجيش الثانى بصد الهجوم المضاد الذى قام به اللواء 190 مدرع الاسرائيلى وقوامه من 75 إلى 100 دبابة، ونجح أبطالنا فى تدمير أغلب الدبابات وتم أسر قائد احدى الكتائب وهو العقيد عساف ياجورى.
استخدم أبوسعدة أسلوباً جديداً فى التعامل مع هذا اللواء، عندما رمى لهم الطعم وفتح لهم الطريق لاختراق الموقع الدفاعى الأمامى والتقدم نحو 3 كيلو مترات من القناة، وبمجرد أن بلعوا الطعم وتقدموا، انطلقت نيران رجالنا كأنها الجحيم يحيط بهم من كل جانب، وتم تدمير أغلب دبابات الصهاينة، بل والاستيلاء على عدد منها، ورفع ياجورى الراية البيضاء، وأدرك أنه هالك لا محالة، وخرجت صورته مستسلماً إلى جميع أنحاء العالم، مؤكداً للقاصى والدانى أن الجيش المصرى قد حقق الفوز الساحق وحطم الغرور الصهيوني، وأن استعراضهم للقوات التى لا تقهر قد أصبح من الماضي، وهنا التقط المخرج محمد فاضل الخيط الذى صنع منه سيناريو فيلمه النادر.
فى ساعات كتب فاضل السيناريو واتجه إلى التليفزيون وطلب كاميرا 35 ملى لكى يضع فيلمه الوثائقى «إنه السبت يوم الاستعراض الأخير»، وخلال أربعة أيام كان قد أعد اللقطات الأرشيفية، وقام بتصوير اللقطات الحية وطلب من نور الشريف أن يكون بطلاً للفيلم وراوياً لأحداثه، وعندما اكتشفوا أن الاستديوهات مشغولة أو مغلقة بسبب ظروف الحرب، جرى التصوير فى الشارع وأمام باب الشقة التى يسكنها نور فى ميدان لبنان، ثم بدأت على الفور عمليات التحميض والمونتاج، وظل المخرج ساهراً حتى أتم العمل وأسرع يسلم الشريط إلى التليفزيون الذى قام بإذاعته، ثم اختفى الفيلم وطواه النسيان، حتى ان مخرجه سأل مراراً وتكراراً ولم يجد إجابة كافية، مع العلم أن القائد أبوسعدة هو زوج الإعلامية الكبيرة سهير الاتربى التى أصبحت رئيسة التليفزيون، وقد أذاعت الفيلم مرة أخرى وأخيرة بعد أن تولت المسئولية.
أما عن اختيار نور، فالمعروف أن فاضل هو من قدمه تليفزيونياً فى حلقات القاهرة والناس فى أوائل الإرسال التليفزيونى وصدارة مسلسل «سيت كوم» فى تاريخ الدراما المصرية، حيث بلغت حلقاته «84»، وقد تناول العمل أسرة مصرية وطبيعة مشاكلها التى تصادفها، وكانت مدة الحلقة نصف ساعة، وقد تشارك فى كتابته مصطفى كامل وعاصم توفيق، ولعب بطولته أشرف عبدالغفور وصفية العمرى وليلى طاهر وصلاح قابيل، وكل حلقة لها موضوعها المنفصل من خلال تلك الأسرة.
ماذا تقول يا أستاذ؟
عندما عرفت بأمر الفيلم، اتصلت بالمخرج محمد فاضل وطلبت منه أن يفسر لى سر اختفاء هذا العمل المهم الذى يوثق حرب أكتوبر من لحظة تحدث عنها أيضا المشير عبدالغنى الجمسى رئيس العمليات فى حرب 73، عندما قال فى مذكراته:
اندفعت الدبابات نحو كوبرى الفردان، وقد أفسح لها أبوسعدة الطريق، أو بمعنى آخر فتح لها أبواب المصيدة، وفى المقدمة فرقة ياجورى وكانت مكونة من 35 دبابة، وفى لحظات اصطادت نيران المدفعية المصرية 30 منها فى نصف ساعة، وما ان أدرك عساف أنه وقع فى المصيدة قفز فى حفرة من الحفر خوفاً على حياته، ثم وقع فى الأسر وتم اقتياده مغمض العينين إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون لكى يتم إجراء حوار على الهواء معه من خلال البرنامج العبري، وكانت اسرائيل قد كذبت خبر وقوعه فى الأسر، وظهر الضابط يسرى عمارة الذى قبض على ياجوري، رغم إصابته فى يده برصاصة.
فاضل يتمنى بالتأكيد لو ظهر فيلمه المختفي، وأن يقدم عملاً عن أكتوبر، لأن هناك الكثير من القصص والحكايات لم يتم الكشف عنها، وفكر فى مشاريع عديدة، لكن الظروف الانتاجية لم تسعفه، لكنه مازال يحلم ومعه كبار المخرجين وأبرزهم الراحل على عبدالخالق، فقد اكتشفت أنه صاحب الرقم القياسى فى أفلام أكتوبر «أغنية على الممر، حرب الكرامة، إعدام ميت» إلى جانب «بئر الخيانة» الذى يتناول قصة أحد الجواسيس، وقد رحل قبل أن يظهر للنور أكثر من فيلم ومسلسل، وقال لى فى آخر مكالمة قبل رحيله:
إن هناك رغبة عند كل مخرج ومؤلف لتقديم أعمال عن أكتوبر، وفاضل يرى أن أفلام أكتوبر ومسلسلاته ليس شرطاً أن تتناول الحرب بشكل مباشر، لأن ما تم تقديمه عن حرب الاستنزاف يكشف كيف تحقق النصر، وتقديم الجوانب البطولية للشعب تستوعب أعمالاً عديدة، والدليل على ذلك أن عرض فيلم «الممر» تحول إلى حدث فني، ثم ان الامكانات تطورت جداً فى تكنولوجيا التصوير والصوت واستخدام الفوتوشوب، والأجيال الجديدة يجب أن تعرف كيف تحقق العبور بجهد الجميع وباستخدام العلم والعمل الجماعي، وهو ما يجب أن يتحول إلى منهج فى حياتنا كلها وكيف نواجه أزماتها داخلياً وخارجياً من وحى النصر العظيم بالعلم والروح الجماعية، كل فرد فى موقعه.