العالم العربى والإنسانى يمر بمرحلة حرجة تتسم بالتحديات المتنوعة، سواء كانت اقتصادية، أو اجتماعية ورغم هذه الصعوبات، تظل أكبر مشكلة تواجهنا هى أزمة الوعى وانحراف البوصلة الفكرية عن الطريق الصحيح.
هذه الأزمة ليست فقط نتيجة للعوامل الخارجية التى تحيط بنا، بل هى نتاج طويل الأمد لعوامل داخلية تتمثل فى تراجع دور التدين الوسطى والعلم الصحيح وتنامى الشائعات والأفكار الزائفة لذا، فإن الخروج من هذا التيه لا يتحقق إلا من خلال استراتيجية متكاملة تُعيد للدين وللعلم دورهما المحورى فى حياة الأفراد والمجتمعات، وتدفع بالعقل العربى والإنسانى نحو استعادة مكانته الرائدة.
أولى الخطوات نحو بناء هذه الخارطة الشاملة تبدأ بإعادة الاعتبار لقيمة العلم فى الإسلام. فالإسلام منذ نشأته أعلى من شأن العلم وأمر أتباعه بالبحث والتعلم والتأمل فى الكون والآيات الإلهية. ولعل أحد أعظم الأخطاء التى وقعنا فيها فى العصر الحديث هو حصر مفهوم العلم فى حدود ضيقة. العلم فى الإسلام ليس فقط علماً دينياً يتعلق بالفقه والعقيدة، بل يمتد ليشمل كافة العلوم التجريبية والطبيعية التى تساهم فى تطوير البشرية ولقد كانت الحضارة الإسلامية رائدة فى المجالات الطبية والفلكية والهندسية والرياضية، وهو ما يعكس التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم التجريبية. لكن ما نراه اليوم هو تراجع واضح فى هذا الدور، حيث انشغل البعض بتفسيرات متشددة ومعادية للعلم، وأصبح العقل العربى والإسلامى فى كثير من الأحيان أسيرًا للأفكار المتطرفة.
إن المشكلة لا تكمن فقط فى هذا التراجع، بل تتفاقم مع انتشار الشائعات والمعلومات الخاطئة التى تغذيها وسائل الإعلام غير الموثوقة والمنصات الإلكترونية. هنا يأتى دور الإعلام فى معركة الوعي، فهو يمتلك نصيباً وافراً فى تشكيل العقل العام وصياغة توجهاته. الإعلام اليوم يجب أن يتحمل مسئوليته التاريخية فى مواجهة الأفكار الزائفة والشائعات التى تضلل المجتمعات. نحن بحاجة إلى إعلام مسئول يعمل على نشر المعلومات الموثوقة والمستندة إلى حقائق علمية، ويقوم بدور محورى فى توجيه الأفراد نحو البحث عن الحقيقة بدلاً من الانسياق وراء الأكاذيب.
وتشكل محاربة هذه الأفكار الزائفة أحد أهم أركان معركة الوعي، حيث أن تراكم الشائعات والأوهام فى العقول يساهم بشكل مباشر فى تشكيل عقلية متطرفة قد تدفع البعض إلى ارتكاب الجرائم تحت ستار من المعتقدات الباطلة. لقد شهدنا فى العقود الأخيرة كيف أن البعض، رغم حيازتهم لأعلى الشهادات الأكاديمية، سقطوا فى فخ التطرف بسبب تلقيهم العلم من مصادر غير موثوقة. هذا يؤكد أن الأزمة ليست أزمة تعليم بقدر ما هى أزمة فى نوعية العلم المُقدَّم ومدى توثيقه. لذلك، لا يمكن الحديث عن نهضة حقيقية دون تنظيف العقول من هذه السموم الفكرية وإعادة بنائها على أسس علمية راسخة.
أما الدعامة الثانية فى عملية بناء الوعى فهى تتعلق بنشر العلوم الصحيحة وبناء العقل على أساس من التوثيق والدقة العلمية. عندما يُطهَّر العقل من الأكاذيب والشبهات، يصبح مهيأً لتلقى المعلومات والعلوم الصحيحة. هنا يأتى دور المؤسسات التعليمية والعلمية التى يجب أن تُسهم بشكل فعال فى نشر العلم المبنى على أسس منهجية واضحة. التعليم الصحيح هو الضمانة الكبرى لتهيئة الأجيال القادمة للتعامل مع تحديات العصر ومتغيراته. ولعل هذا هو الدور الذى يجب أن تلعبه المؤسسات التعليمية فى عالمنا العربى والإسلامي، عبر التركيز على تعليم الطلاب كيفية التفكير النقدى والتحليل العلمي، بعيداً عن التلقين الأعمى الذى قد يؤدى إلى تشكيل عقول جامدة وغير قادرة على التطور.
وفى هذا السياق، يجب علينا أن نستعيد الإرث العلمى الذى خلفه لنا علماء المسلمين الأوائل، الذين كانوا يجمعون بين المعرفة الشرعية والعلوم التجريبية. لقد كانوا يُدركون أن النهضة الحقيقية لا تأتى من خلال الانغلاق على العلوم الدينية فقط، بل يجب أن يتكامل العلم الدينى مع العلم التجريبى لإحداث التقدم الحضاري. كانت تلك المرحلة الذهبية فى التاريخ الإسلامى شاهدة على ازدهار العلوم والفنون والتكنولوجيا، مما جعل الشرق الإسلامى محطة علمية كبرى استقطبت العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم.
لقد كان الملوك الأوروبيون يرسلون أبناءهم إلى بلاد المسلمين ليتعلموا علوم الحضارة العربية الإسلامية، وكان الجامعات والمدارس الإسلامية تحتضن علماء من مختلف الجنسيات والأديان. لكن ما يفرق بين تلك الفترة وعصرنا الحالى هو مستوى الوعى وطبيعة العقل الذى لم يكن ملوثاً بأفكار التطرف أو معاداة العلم. كانت العقول فى ذلك الوقت تُبنى على أسس علمية راسخة، وكانت المجتمعات الإسلامية مفتوحة على الآخر، تستفيد من العلوم والفنون المتنوعة وتساهم فى تطويرها.
يجب أن ندرك أن رحلة بناء الوعى وتشكيل العقل المستنير هى رحلة طويلة ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة. إن إعادة الاعتبار لقيمة العلم، وتطهير العقول من الأفكار المتطرفة، وبناء منظومة تعليمية وإعلامية متكاملة هى السبيل للخروج من هذا التيه الذى نعيشه.