تنفق الدول مبالغ طائلة وقد تكون فلكية من مليارات العملات الصعبة فى تحسين ما يسمى بالصورة الذهنية، وبخاصة تلك الدول التى توصم بجرائم الحرب كالكيان الصهيوني، أو تلك التى ترغب فى تغير انطباعات الشعوب عنها من حال إلى آخر، وتلجأ فى هذا المنحى إلى مؤسسات دعائية وعابرة للقارات تمتلك من الآليات الفاعلة إعلاميًّا واقتصاديًّا ما يجعل لها نفوذًا على مساحات الاعتقاد لدى جماهيرها المتلقية لمضامينها ذات التأثير المستهدف، وربما تغيرت من خلال تلك المؤسسات الدعائية تصنيفات دول كما فعلت شركات الوجبات السريعة ومعارض الأزياء المتنوعة عندما بثت أنماط السلوك الاستهلاكى لدى الشعب السوفيتى فتحول شيئًا فشيئًا – مع عوامل أخري– إلى البرسترويكا فى 1991، ثم إلى التفكك المشتت للجمهوريات الخامسة عشرة المكونة للاتحاد السوفيتي، وتحول العالم من ثنائى القطبية إلى أحادى القطبية، وانتصر النموذج الغربى باعتباره هو الأصلح اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وبالتالى ثقافيًّا، وتلك تعد إحدى آليات صراعات الأمن الثقافى الذى من خلالها انتصرت ثقافة على أخري، ونتج عن ذاك الانتصار تحولات عالمية فى المجالات الإنسانية الاقتصادية والسياسية وأيضًا الاجتماعية، فى حين أن التغير قد بدأ من ناحية اختراق الأمن الثقافى وما تلى ذلك الاختراق كان هو الأظهر والأكثر وضوحًا فى حين انزوى الغزو الثقافى وهبط إلى قاع اللاوعى فلا عين تراه أو تلحظه، ولا صوت يناديه أو يتحدث عنه، وأصبح فى طى الكتمان، وغير هذا المثل العظيم –عالميًّا– أمثلة أخرى – إقليمية– أثرت فى المحيط الإقليمي، وكانت لها تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن كونها أحدثت نوعًا من الفراغ الإستراتيجى إلى حد ما، تمامًا كما درات ماكينات المؤسسات الدعائية العابرة للقارات نحو تغافل التسليح النووى للكيان الصهيونى والادعاء بوجوده فى العراق عقب تمام تنفيذ المهمة السابقة العالمية بعقد واحد فقط من الزمان، ومع بداية الألفية الثالثة استيقظ العالم على دعاوى امتلاك العراق للسلاح النووى وتشدق الجميع شرقًا وغربًا حتى أن الصديق والقريب قد صدقا هذا الكذب المنمق والمتبع لمنهجية دعائية تعتمد نظريات التأثير الإعلامى الحديث وتستحدم آليات حاكمة ومسيطرة على الرأى العام العالمي، حتى تشكلت ثقافة عالمية معادية للعراق وتسعى لفنائها تحت مسمى (عاصفة الصحراء) ولا مانع من نحت مصطلحات تجارية رائجة لدى وسائل الإعلام ولها تأثير يشبه تأثير هوليود، هذه المؤسسات الدعائية تتمكن ليس فقط من إسقاط دول واحتلالها بل، وأيضًا تستطيع التلاعب بمعتقدات الجماهير المستقبلة لمحتواها الإعلامي، وحتى هذين المثلين كانت تعتمد على آليات الإعلام التقليدى إلى أن تطور الأمر طبقًا لنظرية النشوء والارتقاء للإنجليزى تشارلز دارون، ورغم أنها تتحدث عن التطور البيولوجي، فإنه لا مانع من اتباعها طبقًا لما يسمى بنظريات المحاكاة التى عرفها فلاسفة اليونان – القدامي– بالمشابهة والمماثلة، وبدأت تستثمر الثورة التكنولوجية التى حدثنا عنها –أولًا– الأمريكى ألفين توفلر عن أثرها ليس المعرفى فقط بل والسياسى والاقتصادى والاجتماعى فى كتابه (صدمة المستقبل)، وتحدثت آليات السيطرة من التقليدية إلى الرقمية، وبالتالى أنماطها الافتراضية على الشبكة العنكبوتية، التى بات تأثيرها ليس للتواصل الاجتماعى إنما كان تحقيقًا لعبودية التبعية الثقافية أو الهيمنة الثقافية التى تبسط نفوذها على شعوب بعينها من أجل تغيرها جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بالطبع، وفعلت تلك المؤسسات الدعائية الأفاعيل فى شعوب تحت مسميات الثورة الملونة فى وسط آسيا، منها: البرتقالية والأرز والورود والتيوليب والزرقاء والأقحوان والزعفران وغيرها، التى تهدف إلى تغير شامل فى مجتمعاتها إلى أن وصلنا إلى ما يسمى ثورات الربيع العربي(!).
وهنا يستوجب الحديث عن الصورة الذهنية للشعوب وللدول وأثر تلك الكيانات الدعائية الإيجابى أو السلبى فى الشعوب، إنما كلما كان الأمن الثقافى قويًّا رصينًا وهو ما يعنى مستويات الإدراك ودرجات الوعى بالتحصن وراء الأنساق الثقافية الناتجة عن ممارساتنا اليومية والاعتيادية المتحضرة هى التى تجعلنا فى غنى عن الاستعانة بمؤسسات تحسين الصورة الذهنية وأيضًا تحفظ هويتنا الوطنية من هجوم الوافد من الثقافة الهدَّامة والمعادية، وكان المثل الأقرب هنا هو أثناء مجريات معرض القاهرة الدولى للكتاب كان هناك فئات داعمة لنجاح المعرض ظنوا أنهم فى الظل وأن أحدًا لا يراهم، إنما الواقع هو ما فرض مثل تلك الحكايات فى هذا السياق، كما قام أحد سائقى الثقافة بدعوة أحد ضيوف المعرض إلى تناول ساندوتش طعمية فى أثناء مغادرته من القندق محل إقامته فى مصر إلى المطار؛ حيث تحدث الضيف عن عدم تمكنه من تناول الإفطار فى فندقه، وتعجب الضيف من إصرار السائق العظيم – الذى ظنه بسيطًا– فى دعوته المجانية.
وتكرر الأمر مع ضيف آخر ترك مظروفًا به نقود نوعًا من المجاملة لسائقه الذى اصطحبه طيلة أيام المعرض وفوجئ أن المظروف يصل إليه فى طائرته مع كلمات شكر مصحوبة باعتذار عن قبول مقابل الضيافة المصرية، وما من الضيف إلا أن أرسل برقية شكر إلى ثقافة مصر.
وغير ما سبق من سلوكيات المصريين الاعتيادية اليومية والتلقائية كثير جدًّا، وما كان بتخطيط من مؤسسات الدعاية العالمية لتحسين الصورة أو طمسها، إنما كان قوة الثقافة المصرية التى تعنى النسق الأخلاقى ومنظومة القيم وحزمة المبادئ وتحضر المصرى الذى لا يمكن اختراق هويته أو تشويهها أو استبدالها، كنت أنوى إطلاق عنوان الأمن الثقافى والهوية الوطنية إنما وجدت فى المظروف المغلق وساندوتش الطعمية الأثر الأكبر من مليارات العملات الصعبة.