قال عنه الإعلام الغربى إنه القارئ لتاريخ مصر بالميكروسكوب وأوقف حياته لإعادة كتابته بعين محايدة وموضوعية.. هكذا تحدث الإعلام الغربى عن المؤرخ الدكتور يونان لبيب رزق.. ويصفه الكثيرون من زملائه وتلاميذه فى جامعة عين شمس بأنه صاحب «ديوان الحياة الحديثة» المنقب العميق فى سطور التاريخ.. تحس وانت متابع لما يسطره أن قلمه مجرد من العواطف والموروثات الأيديولوجية.. ويطرح ما لديه من معلومات بلا رتوش.. حمل لقب المؤرخ الحكيم الذى دخل عش الدبابير فى كتابة التاريخ ولم يلدغ لأنه حرص على أن يكتب الحقائق لمؤرخ استند إلى المعلومات الموثقة، لم يكتب بـ «أهواء» أو وفق الخيال بل استند بشكل كبير على المعلومات التى لم يلونها بهواه أو عواطفه.. وهو المؤرخ المجدد وليس المترجم لكتب ينشرها لغير أهلها.. غير مقلد.. يناقش ويكتب بروح الباحث.. ويقول كتاب التاريخ قلما يتوافر فى مؤرخ صفات مهمة فهو ليست لديه نزعة تعصب أو تحيز.. فقد ورث القيم النبيلة للبحث العلمى وأعاد كتابته بلغة تاريخية رشيقة.. نجح هذا المثقف النبيل ليكون صاحب مدرسة خاصة لكتابة التاريخ مزج فيها بين الصحافة والكتابة الأكاديمية بأسلوب «السهل الممتنع» والذى يعتمد على جمع المعلومة التاريخية «الجافة» ويضعها فى قالب رشيق سهل الهضم والقراءة.. وكان له جهد خلاق عبر «مدرسته التاريخية» بإزالة الغبار عن كثير من الحقائق فى التاريخ والجغرافيا بإسهام وطنى واضح وبرؤية ثاقبة.. لدرجة أن المختلفين فى أى واقعة لها علاقة التاريخ المعاصر كانوا يعتبرونه المرجع.. وكان رأيه هو الذى يقنع الجموع من المختلفين أمام أى معلومات «متأرجحة» عليها اختلاف.. ويقول أصدقاؤه: إذا أعيتنا المعلومة فى تفسير الحاضر كنا نهرب إلى د. يونان ليضع ميزاناً علمياً دقيقاً لها.. وقبل أن أقدم من هو يونان لبيب رزق أود كمتابع له أكثر من نصف قرن عبر «ديوانه» الشهير فى الزميلة الأهرام.. ان من يلتقى به يعرف أنه أمام مفكر عاش تحولات اجتماعية كبيرة من الأفندى الذى عاش وسط الطبقة المتوسطة وأطل على قرائه بكتابات تاريخية فى شكل مميز للكتابة الصحفية الجاذبة للقراءة وليست الجامدة التى تنفر من بين سطور قليلة.. لكنه – أى د. يونان – يربط قارئه به من السطر الأول إلى الأخير وبين السطور.. ولما لا وهو عاشق التاريخ وأستاذه عزت عبدالكريم رئيس قسم التاريخ بجامعة عين شمس.. عرفته مصر كلها ككاتب وطنى مميز فى أحداث طابا، فقد كان أحد عباقرة الفريق المصرى الذى أعاد الحق للوطن.. واستطاع أن يقدم للمكتبة العربية أكثر من 55 كتاباً ومئات من رسائل الماجستير والدكتوراه وآلاف الندوات والمؤتمرات وكثيراً من مكتبات العالم وأشهرها فى لندن وباريس واسطنبول والخرطوم ومدريد.. وتظل قضية طابا المشروع التاريخى الأشهر الذى يفتخر به.. نال العديد من الجوائز عن أعماله المختلفة فى البحث والتنقيب عن وثائق التاريخ.
ولد د. يونان فى شبرا وسط أسرة متوسـطة فى 27 أكتوبر عام 1933. والد الدكتور يونان يعمل لدى جده.. وكان والده الأكبر ضمن ثلاثة أبناء.. وفى السادسة من عمره توفى والده ونجح الجد أن يحافظ على الأسرة بأن خصص قطعة من الأرض التى يملكها ليعيشوا على ريعها يونان وشقيقتيه.. وكان له أثر كبير فى حياته، الأمر الذى جعله يلزم الاسم الصحفى والأكاديمى «يونان لبيب رزق» فقد كان جده رزق مثلاً يقتدى به ويوجهه فى السن المبكرة بعد وفاة والده.. فهو حاصل على دراسات الشرطة والحقوق من باريس.
وتدرج جده فى العمل مع الشرطة ما بين القاهرة والاسكندرية والأزبكية وكان منزل العائلة يسمى «بيت المأمور» نظراً لأنه وصل لمركز «مأمور».. واللافت أن جده الذى تعلم فى باريس لم يصل أى من أبنائه إلى «البكالوريا».. وكان والده يعمل فى مصلحة الحدود قبل وفاته وتركها ليساعد والده رزق.. وعندما دخل أبناء العمومة الشرطة دخل السرور للعائلة ليعيد أمجادها.
أحب يونان الطالب الالتحاق بالشرطة لكن أحد أبناء عمومته أشار عليه أن يدخل كلية الآداب بجامعة عين شمس وشجعه زوج بنت عمه اسكندر حنا فى ذلك وللمصادفة أن اسكندر حنا كان مولعاً بشراء الكتب كهواية وصرف على ذلك الكثير من الأموال ليشبع هوايته.. وعندما ضاقت شقته بالكتب استأذن والدة يونان بوضع بعض دواليب الكتب لديهم.. ورحب يونان جداً لأنها فرصة خاصة أن زوج بنت عمته لديه كثير من كتب التاريخ.
الأب والأم
فى هذه الفترة ويونان يدرس فى مدارس شبرا الابتدائى والإعدادى والثانوى.. تعاملت معه والدته بشدة ومارست دور الأم والأب دون تدليل رغم أنه ابنها الوحيد على ابنتين.. وهذا كما يقول د. يونان بعد ذلك هذا كان وراء بناء شخصيتى.. وأن صراحة والدته كانت جزءاً مهماً فى بناء الشخصية.. لكن قلب الأم أحياناً وسط ظروف الحياة تبكى إذا قست عليه.. وفى نفس الوقت كانت لا ترضى عنه إذا ارتكب خطأ وأن التعليم أهم شيء.. وبعد أن انتهى من الحصول على الثانوية دخل الجامعة ليبدأ حياة جديدة.
فى جامعة إبراهيم باشا «عين شمس»
عام 1951 أنتقل من كلية العلوم إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس وكانت تسمى جامعة إبراهيم باشا وخرج منها حاصلاً على درجة الليسانس عام 1955 بعد ثورة يوليو بثلاث سنوات، فقد دخلها فى عهد الملك فاروق وتخرج مع الثورة فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر ومروراً بالرئيس محمد نجيب الذى كان قد خرج من الحكم قبل تخرجه فى الجامعة.
مدرس بالإسماعيلية
وبعد التخرج التحق بالعمل مدرساً فى مدينة الإسماعيلية والتى عاش فيها فترة العدوان الثلاثى عام 1956 بعد تأميم قناة السويس وخلال هذه الفترة قرر الالتحاق بالجامعة كطالب للدراسات العليا وعكف على إعداد رسالته للماجستير ونظراً لارتباطه الدراسى الجديد عاد إلى القاهرة وسجل الماجستير تحت إشراف د. أحمد عزت عبدالكريم واختار موضوعه للماجستير عن «السودان».. ونظراً لأن الموضوع يتطلب سفره إلى السودان انتدب للعمل بوزارة بالسودان فى البعثة التعليمية فى العاصمة الخرطوم مما أتاح له الفرصة للبحث والإطلاع فى المكتبة السودانية بأم درمان والخرطوم، حيث يعمل وكان بالنسبة له اكتشاف ساعده بعد ذلك عندما شارك فى فريق تحكيم «طابا» والإطلاع بعمق على دار الوثائق السودانية.. وحصل بالفعل على الماجستير بتقدير ممتاز عام 63.
مرحلة الدكتوراه
وواصل الدكتوراه حول السودان أيضا وهو عضو فى الخرطوم فى البعثة التعليمية وفعلاً حصل على الدكتوراه فى موضوع «السودان» أيضاً ونالها بمرتبة الشرف الأولى.. وبعد حصوله على الدكتوراه عاد إلى القاهرة.. وانتدب انتداباً كاملاً من وزارة التربية والتعليم بعد النكسة عام 1967 إلى كلية الآداب ومنها إلى كلية البنات بجامعة عين شمس وتدرج فى سلك التعليم الجامعى وتولى خلال مسيرته رئاسة قسم التاريخ ما بين 1994-90 وكان قد حاز على درجة أستاذ عام 1979 وأستاذ متفرغ عام 1994م وخلال هذه الفترة شارك فى العديد من المؤتمرات العلمية ممثلاً للجامعة وللكلية.
طابا مشروع عمره
عندما اختير للمشاركة فى فريق تحكيم طابا وأبلغ بذلك من وزارة الخارجية المصرية اعتبر د. يونان أنه مشروع عمره وأنها قضية عمره أن يكون ضمن هذه الكوكبة المشاركة فى هذا المشروع المهم مع أسماء لامعة وبينها الدكتور وحيد رأفت والدكتور مفيد شهاب والسفير الدكتور نبيل العربى ود. محمد طلعت الغنيمى ود. يوسف أبوالحجاج العميد الأسبق لكلية الآداب والسفير أحمد ماهر ود. صلاح عامر وكيل كلية الحقوق ومعهم المستشار سعد حبيب والمستشار أمين المهدى.
وفى أحاديثه حول طابا كان يثنى على الجميع فرسان المعركة القانونية وكيف أنجز كل واحد منهم المهمة التى كلف بها.. وأفرد كثيراً للراحل نبيل العربى وزير الخارجية السابق وأمين عام الجامعة العربية وكيف كانت ردوده فى المحكمة حول طابا بلغة انجليزية رفيعة عندما رد على أحد الإسرائيليين الذى قال تركنا 60 ألف كيلو متر فى سيناء والان مصر تبحث عن كيلو متر فقال كلمته التى أخرس بها الوفد الإسرائيلى «إن تراب الدول لا يقاس بالمتر» فى هذه الأثناء توزعت المهام وتبارت الجمعيات العلمية بالدفع بكل ما يخدم هذه القضية القومية.. وقد شاءت ظروفى العملية فى رحلتى الصحفية أن التقى بالقانونى المنوفى الأستاذ الدكتور طلعت الغنيمى الأستاذ بجامعة الإسكندرية وكان يعمل بالسعودية بوزارة البترول وتحاورنا حول طابا وكان حديثه شيقاً وثرياً حول د. يونان لبيب رزق.. وقال إننى كنت ملقباً بمحامى «الشيطان» أى أمثل الجانب الإسرائيلى وكانت اللجنة قد وضعت سيناريو للمحاكمة يضع أمام المنصة المسئول الدولى وأمامه الأطراف المختلفة وكان الرجل الغامض فى هذه القضية هو الأستاذ الدكتور الدبلوماسى القانونى نبيل العربى.
كاتب المذكرات فى قضية طابا
كان قد تم توكيل يونان لبيب رزق لإعداد المذكرات والمعلومات أمام خريطة العمل من الفريق المصرى الذى كان يتجاوز عددهم 10 أفراد أشادوا جميعاً بطريقة كتابة المذكرات التاريخية التى أعدها منقباً وشارحاً د. يونان لبيب رزق.. ونجح فى التوثيق عبر المكتبات التى زارها فى السودان وتركيا ولندن وباريس وأمريكا وظهرت دقة المعلومات عندما نوقشت فى المواجهات الشفهية خاصة العلامة 91 والعلامة 90.. وكانت المعلومات التى قدمها د.يونان واضحة ومهمة والتى فندها د. نبيل العربى بلغة أخرست الجانب الإسرائيلى لأنها قطعت أمام القاضى الشك باليقين.. وكانت مذكراته التى دونها موضوعاً للحديث المهم مادحاً خاصة الدكتور وحيد رأفت ود. طلعت الغنيمى.
ويذكر أنه أثناء سفر د. يونان إلى لندن للبحث فى المكتبة الإنجليزية عن الوثائق الحدودية.. وأثناء سيره فى أحد شوارع لندن كاد أن يتعرض لحادث سير يودى بحياته ونجاه الله.
وقال د. يونان بعد النجاة لو أصابنى مكروه كانت الصحف الإنجليزية ستتهم العدو بالتخلص منى وتصبح قصة أخرى حول طابا.. وان سبب الحادث وراءه جريمة لأن هذا الذى تعرض للحادث عضو فى الفريق المصرى المحامى عن «طابا».
لم يزر طابا
اللافت أن د. يونان الباحث الذى نقب عن كل صغيرة عن طابا وحدودها من كل جانب وفتش عنها فى خرائط كل مكتبات شهيرة فى العالم أو دار للوثائق لم يزر طابا ومات دون أن يزورها.
صحيح وهذا ذكره بنفسه سافر مع أعضاء مجلس الشورى إلى شرم الشيخ أيام كان عضواً بالمجلس بقرار لمدة دورتين، لكنه لم يزر طابا.
المرأة فى حياته
تأثر كثيراً د. يونان لبيب رزق بالمرأة تأثر بوالدته ودور جده فى تربيته.. وأصدر كتابين خصصهما للمرأة الأول المرأة المصرية بين التطور والتحرر «1873 – 1932».
مشيراً إلى أن قاسم أمين ليس الرائد فى تحرير المرأة بل جاء تحريرها بسبب حركة المجتمع الطبيعية وتطوره وفاز الكتاب بأنه الأحسن للكتب التى تصدرت معرض القاهرة للكتاب عام 2002 وفى هذا الكتاب هدم الاعتقاد السائد أن قاسم أمين هو من قام بعملية مهمة لتحرير المرأة من القيود.
مسلسل الملك فاروق
وكان مسلسل الملك فاروق موضوعاً مثيراً للجدل بين مؤيد ومعارض وكثيرون انتقدوا الخط الدرامى للمسلسل وتحمل الانتقاد وقال وقتها فى لقاءات صحفية التاريخ لا يكرر نفسه وعودة الملكية مستحيلة.. وانتقد بنفسه الشكل الدرامى لبعض الأحداث فى المسلسل وقال لقد دونت ملاحظاتى للمسلسل الذى كتبته السيدة لميس جابر وهذه الملاحظات تم تجاوزها.. وقال لا أتدخل فى الشكل الدرامى لكن دورى يقف عند «تضفير» المعلومة مع الجملة الصحفية الرشيقة.. واكتب بعين «ميكروسكوبية» وانحاز للتاريخ بحلوه ومره.. وأشار لابنتيه وأحفاده حقيقة ما كتب وان الخط الدرامى هو من فتح الباب عليه البعض ينتقده والبعض الآخر يثنى عليه أما هو فينقل التاريخ ويوثقه دون ايديولجيا والخط الدرامى ليس له دخل فيه.
الأحزاب وكتب وابحاث
انتقد د. يونان لبيب رزق الأحزاب المصرية قبل وفاته عام 2008 وقال إنها مثل الهياكل الخشبية كالطائرات التى تضرب على الأرض.. وقال كلمة شهيرة فى أحد لقاءاته الصحفية وهو كاتب ومؤرخ التاريخ و«نباش» دقيق فى الوثائق لو سألنى أحد عن اسمائها سأرسب بجدارة رغم اننى قمت بتأليف عدد من الكتب عن الأحزاب.. وهى بالنسبة للأحزاب التى انشأها الرئيس السادات كانت فى شجار مستمر مع الأحزاب ما قبل 1952 وثورة يوليو.. والمعروف أنه أعد دراسات مهمة عن تاريخ الأحزاب فى مصر منذ ثورة 1919 التى أبدى اعجابه بها كثورة شعبية مهمة فى الـ20 سنة الأولى من القرن الماضى.
قصته مع جراند أوتيل السودان
كان الدكتور يونان مغرماً بالسفر إلى السودان سواء للعمل أثناء اعداده لدراسات الماجستير أو الدكتوراه.. لكن فى فترة تكليفه بزيارة المكتبة السودانية بحثاً عن وثائق تتعلق بتنقيبه عن الوثائق حول طابا.. كان يفضل الاقامة فى الفندق الشهير بالعاصمة المثلثة «الخرطوم» جراند أوتيل أو السودان الكبير وهو الفندق المفضل لكثير من الصحفيين الذين يزورون السودان لبساطته واطلالته الجميلة على النيل.. وقربه من الحى التجارى وقصر الحكم والمقابل له على الشاطئ الآخر من النيل فندق قصر الصداقة والهيلتون حيث تم استضافة قمة الخرطوم فى أغسطس عام 67 وهى قمة «اللاءات الثلاثة» برئاسة الأمين العام للجامعة العربية وقتها د. محمود رياض.
هذا الفندق هو مركز المثقفين فى السودان وكان الفندق المفضل للكثيرين من الصحفيين بينهم الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين والكاتب الكبير اللبنانى فؤاد مطر وفى عهد جعفر نميرى كان نادراً ما تجد صحفياً مصرياً كبيراً أو شاباً يجلس فيه فقد بنى فى عهد ما قبل ثورة مايو بقيادة نميرى.
لذا اختاره د. يونان أولاً ليرى السودان الوجه الآخر ولأن المكان يساعد على صنع الخيال الطبيعى على النيل فى العاصمة الهادئة وليس بعيداً عن كوبرى أم درمان وقريباً من المكتبة العامة والجامعة.. كل هذا جعل د. يونان يخلق لنفسه رواقاً عاماً مع الأكاديميين والكتاب والصحفيين فى السودان فى ذلك الوقت.. وبعد خروج نميرى من الحكم وتولى سوار الذهب.. كانت فترة خصبة له فى وقت يستطيع ان يسترجع الماضى وينبش بين وثائقه التى يبحث عنها.. والمكلف بها من اللجنة القومية للبحث عن وثائق طابا وفريق الدفاع عنها من القانونيين والأكاديميين.
ولما لا ينقب وهو من يعتبر نفسه – أو أطلق عليه – الجبرتى الذى يعتبره مثله الأعلى.
التاريخ ليس للبيع
سألوه كيف تتناول الوثائق التى تنقب بها وتكتب عنها فى ديوانك عن التاريخ المعاصر قال كلامه المهم «أنا لا أبيع تاريخى» وقمت بتأليف أكثر من 53 كتاباً عن مصر وعالمنا العربى ولا أحيد عن الأمانة العلمية فى الكتابة.. فالتاريخ ليس مادة للبيع انها وثائق تتناولها الأجيال لابد أن تستند إلى الواقع الحقيقى لكى تعيش.. وعلى الكاتب الذى يتناول الشخصيات والسير الذاتية تناولها من جانبها كمؤرخ محايد.. ولا ينحرف بالمعلومة لاهواء أو اغراءات أو تكوين المعلومة فهنا يذهب رونقها وقيمها للأجيال.
رحلة السيد المسيح
كثيرون وأنا منهم ارتبطنا بكتابات د. يونان لبيب عن رحلة السيد المسيح والسيدة مريم العذراء وكانت هذه الرحلة عندما يكتبها ويكررها كثيراً يرسم بالكلمات ويشخص المعلومة وكأنك تتعايش معها ومع المواقع التى مرت بها الرحلة فى مصر عبر محطاتها المختلفة باسلوب تاريخى يرسم بكلماته الرشيقة وأسلوبه المميز يصف أماكن الرحلة والاستراحات التى كانت فى طريق الرحلة ذاكراً الأماكن التى وصلتها السيدة العذراء والسيد المسيح فى كل ربوع الوطن.. ويعد ما تركه د.يونان حول رحلة العائلة المقدسة إلى مصر من أروع ما كتب عن هذه الرحلة ولا أخص مكاناً معيناً من بدايتها فى فلسطين إلى سيناء إلى الشرقية إلى القاهرة وخاصة «مسطرد» أو «المحمة» باعتبار أنها المكان الذى استحم فيه السيد المسيح، ومواصلتها بعد ذلك نحو صعيد مصر حتى وصولها إلى الدير الكبير فى أسيوط.
ويذكر المتابعون لاعماله ان الدكتور يونان كان يكتبها بلغة سهلة تجعلك ترويها أو تحكيها لأبنائك ومعارفك فقد كان يملك ناصية الكلمة والرواية الدقيقة التى تجعلك تتخيل أنه يحكيها لك وليس كاتباً ينقلها للقراء.
الوفاة
بوفاته فقدت مصر كاتب مهماً ووثائقياً أميناً.. نجح فى أن يجعل المعلومات التاريخية وثائق حية رشيقة سهلة الهضم والفهم.. لم يكن مستخدما للجملة المعقدة بل كان باحثاً يكتب بقلم رشيق صاحب مدرسة لكتابة التاريخ المعاصر هى مدرسة الواقعية والكتابة برؤية محايدة.. لم يكتب بـ «حول» المعلومة أو تلوينها.. أسس فى كلية البنات منتدى لتلاميذه وترأس لجاناً علمية كثيرة وأصدر كتباً كثيرة فى مقدمتها «الأصول التاريخية لطابا» الذى يعد واحداً من أهم كتبه.. وظلت مقالاته الأسبوعية فى الاهتمام عنواناً مميزاً للباحثين عن التاريخ والسياسة والغوص فى الحقب المصرية عبر عصور التاريخ.. وترك للمكتبة العربية الكثير من الكتب التى تجعل منه اسماً خالداً خاصة أن الغواص الماهر فى تاريخ مصر الدولة التى بها أقدم حضارات العالم وبها كنوز تاريخ العالم القديم والحديث.
لقد تعددت أوصافه، بين «جبرتى العصر» و«ذاكرة مصر»، لكنه فى النهاية مؤرخ وطنى قدم الكثير فى قراءة التاريخ بموضوعية، وسلاسة، ورغم أنه خاض فى كل الملفات سياسية واجتماعية، وثقافية، لكنه كان بأسلوب المنضبط لم يقع فى أزمة الانحياز أو العداء لأحد، بل كان رفضه للتصنيف الدينى للتاريخ سبباً فى أن يرصد التاريخ المصرى كوحدة واحدة أساسها التراكم الحضارى، وليس الدين أو الجنس، وساعدته لغته الأدبية ومهارته فى أن يكتب التاريخ ببساطة تصل إلى كل الطبقات.