لا خلاف أن حرب أكتوبر حالة استثنائية فى تاريخ مصر.. أبرزت تلاحم الجيش مع الشعب وأدرك كل منهم مسئولياته وتدارك أخطاءه.
كانت القوات المسلحة على قدر كبير من أن تواجه تبعات النكسة.. وأعادت بناء نفسها وبأقل الإمكانيات.. ولكن تبقى إرادة المصريين هى الدافع الأكبر والظهير الأعظم للقوات المسلحة خلال معارك الاستنزاف وانتهاءً بمعارك النصر.
تماسك الشعب والتفافه حول جيشه وقيادته كان كفيلاً بتغيير كل حسابات العدو وغير العدو وكانت أكبر داعم للجيش فى معركة الكرامة.. هذا ما أجمع عليه اثنان من مقاتلى حرب أكتوبر وقادة القوات المسلحة فيما بعد وهما اللواء سمير فرج واللواء حمدى بخيت.
«الجمهورية الأسبوعي» أجرت معهما حوارين عن الملحمة وعن ذكرياتهما وكيف عبرا من الهزيمة إلى النصر.
حرب أكتوبر أعظم انتصار مصرى حدث فى القرن 21 استطاعت تغيير أشياء كثيرة.
هذه الحرب حققت أهدافها وتم استعادة الأرض والكرامة بالعزيمة والإصرار والجهد استطعنا تحقيق الانتصار فى 1973.. وحاربنا عدواً قوياً لديه أسلحة متفوقة وبالرغم من ذلك انتصرنا عليه وحققت الحرب أهدافاً ومن أهمها ظهور قوتنا العسكرية أمام العالم كله.. بهذه الكلمات استهل اللواء أركان حرب سمير فرج حواره معنا.
اللواء سمير فرج، تخرج فى الكلية الحربية بتقدير امتياز عام 1963 والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج فى المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكى والتحق بعدها بكلية كمبرلى الملكية لأركان الحرب بانجلترا فى عام 1974، وعُيّن مدرساً بها فور تخرجه منها ليكون بذلك أول ضابط من خارج دول حلف الناتو والكومنولث يُعين فى هذا المنصب كما تولى العديد من المناصب فى القوات المسلحة المصرية فى هيئة العمليات وهيئة البحوث العسكرية.. وشارك فى حرب أكتوبر 1973 وكان ضابط عمليات ضمن عمليات القيادة العامة للقوات المسلحة وكان أصغر ضابط سناً ورتبة فى ذلك الوقت.
يقول اللواء سمير فرج إنه عندما انتقل إلى مقر العمليات لم يصدق وقتها بأنه قد حان الوقت لبدء الحرب الا عندما نظرت الى الشاشة أمامى ووجدت 220 طائرة تعبر إلى سيناء.
ويستعيد اللواء فرج ذكرياته قائلاً: قبل انطلاق شرارة الحرب بشهر تقريبا، كان لزاما اختبار المركز بجميع أدواته، وتم إطلاق مشروع تدريبي، يمكن من خلاله الكشف عن فاعلية المركز فى الاتصالات والتواصل مع الأفرع الرئيسية. وظللنا نتدرب على المشروع حتى يوم المعركة، حيث أمر اللواء الجمسي، فى العاشرة صباحا، برفع خرائط المشروع واستبدل بها خرائط»العملية جرانيت» الخاصة بالحرب، وبدأ العد التنازلى للمعركة.
كانت غرفة العمليات عبارة عن غرفة تتوسطها منضدة رئيسية كبيرة علوية مخصصة لجلوس القائد الأعلي، وإلى يمينه القائد العام، وعلى يساره رئيس أركان حرب القوات المسلحة وعلى الجانب، يجلس رئيس هيئة العمليات، وأسفل المنضدة يوجد«مجسم خريطة العمليات» للرؤية، والذى يتم تحديث المعلومات عليه. وكنت أتلقى البلاغات، وأقوم بتدوينها فيما يعرف بـ»سجل سير الحوادث»، ثم أتحرك إلى المجسم لتوقيع هذه المعلومات عليه، بحيث يكون الموقف واضحا أمام القادة لحظة بلحظة وكذلك، حينما يصدر رئيس الأركان أمرا ما فى أثناء سير المعارك، أذهب إليه بالدفتر نفسه لقيد الأمر الصادر منه شخصيا.
وأضاف: كان شعورا غير طبيعى أن تتلقى بلاغات تحرك القوات، وتساقط الحصون الإسرائيلية، وتقدم قواتنا، إنه شعور، فى الحقيقة، بالغ الوصف من العزة والشرف.
وروى اللواء سمير فرج قصة محاولة الإسرائيليين الاستيلاء على بورفؤاد فى يوليو 1967 ، وقال إنه فى الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم هاجمت قوة مدرعة إسرائيلية مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها وكانت هى الجزء الوحيد من سيناء الذى لم تحتله إسرائيل أثناء 5 يونيو وعندما وصلت القوة الإسرائيلية إلى منطقة رأس العش جنوب بورفؤاد تصدت لها قوة من قوات الصاعقة قوامها 30 جندياً مزودة بالآر بى جى فقط ، ودارت معركة باسلة مدتها سبع ساعات أنزلت بالقوة الإسرائيلية خسائر كبيرة فى المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع ، مشيرًا إلى أن هذا النصر رفع من الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة بشكل كبير لأنها كانت المعركة الأولى للقوات المصرية بعد النكسة وحققت فيها نصرًا كبيرًا ومنعت العدو من الاستيلاء على بورفؤاد.
وأضاف اللواء فرج: أحلى خبر سمعته أثناء الحرب كان الساعة الثانية والربع عندما أرسل قائد القوات الجوية الإسرائيلية إشارة للطيارين ونحن ترجمنا فحواها ممنوع تقتربوا من قناة السويس 15 كيلو.. أما الخبر الآخر فهو مؤثر بل أعتبره مؤثراً جدا وكان فى حدود الساعة الثالثة والنصف عندما جاءنا خبر استشهاد عاطف السادات شقيق الرئيس السادات فى الضربة الجوية اعلى مطار المليز وخرج بالفعل السادات ليبلغنا قائلا استشهد عاطف السادات وهو كان أقرب واعز صديق وابن وشقيق لى وبدأنا نرفع العلم ثم رويدا رويدا بدأنا نستشعر ملامح النصر وهذا بفضل التخطيط الممتاز من قواتنا المسلحة.
وأوضح اللواء سمير فرج أن نصر أكتوبر 1973 كشف عن مدى الدقة واستحداث وسائل جديدة بفكر مصرى صميم، مشيرًا إلى أنه فى صباح يوم العبور، تحركت وحدات من الضفادع البشرية لإغلاق مواسير»النابالم» أسفل القناة. وفى التوقيت نفسه، كانت هناك وحدات أخرى من الصاعقة تبدأ فى الانتشار خلف خطوط العدو، إلا أن المفاجأة كانت فى نقل الإشارة والبلاغات القادمة من الميدان، فالطبيعى أن»فك الشفرة» يستغرق ساعتين على الأقل من جانب العدو، وهو ما كان يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لنا، هنا تجلى الفكر المصرى الراقى فى الإبداع، عندما استعانت المخابرات الحربية بمجندين من النوبة وسيوة فى الاستطلاع، بحيث يتم إرسال الإشارة وتلقيها فى الجانب الآخر بواسطة جنود نوبيين، مما جعل عملية فك الشفرة معقدة لدى العدو. فبدلا من الساعتين، تحول التوقيت إلى يومين، الأمر الذى أفاد الجيش المصرى كثيرا فى الأيام الأولى للمعارك.
لذا، تعد مشاركتى فى حرب أكتوبر1973 من أهم المحطات الفاصلة فى حياتي، خاصة أنه على الرغم من مضى أعوام كثيرة على الحرب، فإنها لا تزال محفورة فى ذاكرة التاريخ.
وقال إن القوات المسلحة المصرية قد حققت عددا من الانتصارات، التى كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصري، التى فقدها، للأسف، بعد هزيمة يونيو1967،كان من أهمها معركة رأس العش، حين حاولت القوات الإسرائيلية، شرق القناة، التقدم فى اتجاه مدينة بورسعيد للاستيلاء على مدينة بور فؤاد، فتصدت لها مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، وأوقفت تقدم قوات العدو، فكان نصرا عظيما، تذوق المصريون حلاوته لأول مرة.
وأضاف أنه كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، فى هذه الفترة، عندما غارت على العدو، فى عمق سيناء، مما أعطى دفعة جديدة للجيش المصري، وتأكد من قدرة قواته الجوية على التصدى لأسطورة جيش الدفاع الإسرائيلي، المتمثلة فى قواته الجوية.
وأشار إلى الضربة القاتلة للبحرية الإسرائيلية بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، كبرى قطعهم البحرية، أمام سواحل مدينة بورسعيد. وطلب الإسرائيليون، آنذاك، من القيادة المصرية، السماح لهم بانتشال القتلى والغرقى من الجنود الإسرائيليين، دون تدخل من القوات المصرية.
وقال فرج إن فكرة تدمير خط بارليف جاءت من اللواء الراحل باقى زكى يوسف عن طريق استخدام خراطيم المياه لإذابة الساتر الترابى وفتح ثغرات به لتعبر الدبابات المصرية، مستمدًا هذه الفكرة من خلال عمله فى إنشاء السد العالى بأسوان.
وفى ختام حواره أشار اللواء أ. ح. دكتور سمير فرج ان الحروب مستمرة ولم تنته ولكن الطرق اختلفت محذرا من حروب الجيل الرابع والخامس حيث أنها حروب إشاعات وخفض للروح المعنوية، مضيفا أن أى دولة تريد أن تحارب وتدمر دولة أخرى كانت تستخدم الدبابة والسلاح، واليوم أصبح هناك نوع جديد من الحروب بدون استخدام المدفع والدبابة، وإنما بإسقاط الدولة من خلال أبنائها باستخدام حروب الجيل الرابع والخامس، التى تعتمد على بث الشائعات، وإفقاد المواطن الثقة فى قيادته ودولته.
وهذا ما تتعرض له مصر الآن ، ولذلك دائماً يؤكد الرئيس السيسى على بناء الوعى واليقظة فى مواجهة هذه الحروب المدمرة للدول.
اللواء أركان حرب حمدى بخيت:
هدمت نظرية الأمن الإسرائيلية .. وأكدت براعة المصريين
الجيش المصرى بنى نفسه .. وأعاد التسليح والتدريب على مختلف الأسلحة
اللواء أركان حرب حمدى بخيت المحلل الاستراتيجى والعسكرى وأحد أبطال حرب أكتوبر، تعود جذوره لمحافظة الاسكندرية ويعتز كونه من أبناء الدفعة الـ 62 من الكلية الحربية والتى كان عملها فى دولة السودان بمنطقة جبل الأولياء.
قال إن الدول العربية شاركت بكتائب عسكرية فى حرب 6 أكتوبر المجيدة وهو ما يؤكد عبقرية الرئيس الراحل أنور السادات فى التخطيط للحرب، مشيرًا إلى أن حرب أكتوبر كانت ملحمة نصر حقيقية وتكمن أهميتها ونجاحها فى بسالة الجندى المصرى الذى استطاع أن يحقق النصر بأسلحته البسيطة مقارنة بأسلحة العدو المتطور، مؤكدًا أن نوعية رجال القوات المسلحة أيام حرب أكتوبر كانت فريدة والجيش المصرى بنى نفسه وأعاد التسليح والتدريب على مختلف الأسلحة.
قال اللواء بخيت الى إنه تخرج من الكلية الحربية عام 1972 لينضم لصفوف الاستطلاع بإحدى الفرق المدرعة التى شاركت ضمن حرب أكتوبر.
وأشار إلى أنه كان قائد مجموعة استطلاع بإحدى الألوية المدرعة بالفرقة الرابعة، وكانت مهمة المجموعة شديدة الأهمية وكان عليها القيام بمهام الاستطلاع لمنطقة إحدى الممرات الذى كانت ستقتحمه الفرقة خلال تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر لتخفيف الضغط الذى كانت تقوم به القوات الإسرائيلية على الجبهة السورية والتى كانت تتعرض لانتكاسة بسبب تكثيف إسرائيل لهجومها المضاد على القوات السورية المندفعة لاستعادة هضبة الجولان.
وأوضح بخيت أن حجم الهجوم كان ضخما حيث كان يتم على عدة محاور والمطلوب توفير المعلومات بدقة شديدة فى وقت قياسى حتى تستطيع القوات المصرية من تكوين صورة واضحة عن وضع وتسليح وتمركز القوات المعادية، وبخاصة عن الأسلحة الجديدة التى تستخدمها القوات المعادية التى حصلت على أنواع متطورة من الأسلحة الأمريكية وبالتالى كان يجب معرفة قدرات تلك الأسلحة للتعامل معها بحيث لا تشكل خطورة على القوات المصرية ويكون بالإمكان التغلب عليها ، مشيرا الى نجاح مجموعة الاستطلاع فى الحصول على معلومات دقيقة تتعلق بأوضاع ومواقع العدو وحجمها وتسليحها وتمركزها ويتم بناء خطة الهجوم على هذه المعلومات وصار العدو كتابا مفتوحا فى حرب أكتوبر.
وذكر أن الجيش المصرى تدرب ببراعة على الأسلحة قبل حرب أكتوبر 3 جنود رماة من رماة الأسلحة المضادة للدبابات قاموا بتدمير ثلثى لواء مدرع إسرائيلى فى حرب أكتوبر. وهناك من دمر 23 دبابة بمفرده، وهناك من دمر 18 دبابة بمفرده، وواحد دمر 17 دبابة.
وأشاد بخيت بالدور الذى قامت به مجموعات الاستطلاع التى أطلق عليها الرادارات البشرية ، وهى أفراد كان يتم دفعهم بدقة شديدة خلف خطوط العدو من خلال عبورهم قناة السويس ووصولهم إلى مناطق محددة حيث يتمركزون ويقومون بعمليات جمع المعلومات بشكل مستمر، وكان هؤلاء الأفراد يمكثون لفترات طويلة خلف خطوط العدو قد تصل إلى عدة شهور بدون أن يكون معهم أى إمدادات من طعام وشراب وخلافه وكانوا يبقون على قيد الحياة من خلال التعايش مع الطبيعة للبقاء على قيد الحياة، كل ذلك وسط ملاحقة قوات العدو التى كانت تقوم بعمليات تمشيط وبحث مستمر عن قوات مصرية تمارس عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات عنها، مما جعل هؤلاء الأفراد بمثابة رادار بشرى يقوم بالتقاط المعلومات عن العدو ويمررها إلى قيادة القوات المسلحة المصرية.
وأضاف ان حرب اكتوبر هدمت نظرية الامن الاسرائيلية ونجحت القوات المسلحة المصرية فى تلقين اسرائيل درسا قاسيا ، وقطعت القوات الجوية اذراعها الطويلة ، وتحطمت تماما مقولة الجيش الذى لا يقهر على يد خير اجناد الارض ، ومصر نجحت فى خطة الخداع الاستراتيجى التى نفذت لإيهام العدو بأن الجيش لن يحارب.
وقال بخيت إن كل ما حدث فى الحرب من خطط وقيم وروابط تجلت فى فترة كنا نحتاج إشعال شمعة فى ظل ظلام دامس، مشيرا إلى أن حرب أكتوبر ملهمة لأنها استندت على ثلاث قيم.
وأوضح أن الملهم الأول كان الوفاق القومى فكان العرب على قلب رجل واحد من أجل تحرير الأرض واستعادة الكرامة، فكل الأمة كانت على قلب رجل واحد.
وأشار إلى أن الملهم الثانى تمثل فى الإرادة الوطنية التى حققت الروح القتالية العالية، والتخطيط الذى يعظم القدرات، وفن استخدام الأدوات المتاحة لأعلى عائد، وبناء الأجيال الجديدة.
وأضاف بخيت أن الملهم الثالث كان الوعى الوطنى الذى جعلهم يتصدون لكل أنواع التعقيدات والعدائيات، فحين توفر الوعى نجح المصريون فى التصدى للاحتلال الإسرائيلي، واستطعنا هزيمة العدو.
وهو ما نحتاجه الآن ، الوعى الكامل بحجم التحدي والمخاطر التى تواجهها الدولة ، فى ظل منطقة مشتعلة ، مضيفاً أن صناعة الروح من خلال امتلاك القوة هو الحل الوحيد وهو ما حققته مصر لتحديث وتطوير قدرات الجيش لآن فى هذا العالم لا مكان لضعيف أو من لا يمتلك جيش يدافع عن أرضه وأمنه .