هل ستتوقف «الرغبة الإسرائيلية» فى الحرب والتوسع عند مايحدث فى «فلسطين» ولبنان واليمن؟!.. جواب هذا «السؤال الأصعب» ذكره قبل سنوات طويلة المشير محمد عبد الغنى الجمسى وزير الدفاع الأسبق وأحد أبطال ملحمة حرب العاشر من رمضان 1393 «السادس من أكتوبر 1973» والذى وصفته الأكاديميات والموسوعات العسكرية العالمية بأنه من بين أفضل خمسين قائداً عسكرياً فى التاريخ الحديث.. قال المشير محمد عبد الغنى الجمسى فى «مذكراته» بالحرف الواحد : « إن إسرائيل منذ نشأتها أدارت صراعها ضد العرب لتحقيق هدفها النهائى وهو السيطرة على المنطقة العربية بوضع أهداف مرحلية طبقا لما يمكن أن يتحقق فى كل مرحلة بموازنة اعتبارات الموقف الدولى والموقف فى المنطقة والسياسة الداخلية لإسرائيل.. إن «العقلية الصهيونية» من أجل تحقيق أهدافها التوسعية قامت بصياغة «نظرية عسكرية» أطلقت عليها «نظرية الأمن الإسرائيلي» لكى تكون «ستارا» لتحقيق تلك الأهداف وكذلك وسيلة لخداع الرأى العام العالمى وخلق قناعة لدى الإسرائيليين أنفسهم بتقبل ما يقوم به «جيش الاحتلال» من مغامرات عسكرية.. إن الحدود الآمنة لم تحددها إسرائيل أبدا.. إن قادة إسرائيل يتعمدون إغفال ذكر أي شيء لشكل «الدولة» الجغرافى وحدودها منذ «قيام إسرائيل» ويعلنون دائما عن حاجتهم لحدود آمنة.. وإن «بن جوريون».. أحد المؤسسين والمؤثرين التاريخيين للكيان الإسرائيلي.. قال بعدما حدث فى الخامس من يونيو «1967» إنه يجب على إسرائيل أن تتخذ من توسعاتها العسكرية «أساسا للاستيطان وواقعا» يجبر العرب على الرضوخ والإنحناء له.. لقد سألوا بن جوريون يوما عن «حدود إسرائيل» فكان رده أن حدود إسرائيل «حيث يقف جنودها».. هكذا قال المشير محمد عبدالغنى الجمسى قبل «سنوات طوال» لكنه أشار إلى أن «نظرية الأمن الإسرائيلي» وكل ما حاول «بن جوريون» وغيره من قادة إسرائيل ترويجه وتسويقه.. كل ذلك انهار تماما خلال «ملحمة العبور» فى العاشر من رمضان 1393 «السادس من أكتوبر1973».. لقد تلقت إسرائيل فى ذلك اليوم «الضربة الأولي» أو الزلزال المفاجيء الذى حطم «أوهامها الأمنية» مثلما حطم أوهام«بارليف»..رحم الله سبحانه وتعالى المشير الجمسى رحمة واسعة.
تدرك مصر جيدا أبعاد ما يجرى وما يدور فى «المنطقة».. الأبعاد القديمة والجديدة.. تدرك ما يريده «المخططون» ..وتدرك أن هؤلاء «المخططين» يدركون أنها تدرك!!.. ولعل «العبقرية المصرية» تكمن فى إحدى صورها فى تلك «القوة» التى وهبها إياها القوى العزيز والتى تتجلى فى «اللحظة الفارقة».. قوة غير قابلة للرصد أو التحديد أو التقدير بأى معيار أو مقياس من مقاييس القوة المعتادة.. لكنها فى «ساعة الصفر» تعلن عن نفسها بكل إبهار و«إعجاز».. هكذا هى «كنانة الله» منذ فجر التاريخ وستظل إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها.
ما يحدث ويجرى الآن «فى المنطقة وفى العالم» يفرض على المجتمع العام «ضرورة قومية» تكون خلالها جميع مراكز الثقل النوعى فى المجتمع مطالبة باستحضار كافة منابع «الوعي».. وجزء كبير ومهم من هذه المنابع هو «التاريخ».. فإذا حضر التاريخ حضر الوعي.. وإذا غاب التاريخ غاب الوعي.. وعندما يغيب الوعى تتعاظم التحديات وتتزايد احتمالات الخطر !!.
أحاول اليوم بإذن الله سبحانه وتعالى سرد أهم الرسائل التى وردت فى مذكرات المشير محمد عبد الغنى الجمسى والتى تتعلق بنصر العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» خاصة أن هذه الرسائل كما أشرت من قبل تفسر العديد مما يقع الآن فوق «مسرح الأحداث» الإقليمى والدولي.. تحت عنوان «حرب أكتوبر فى الميزان الاستراتيجي» يقول المشير الجمسى فى مذكراته: إن المشكلة الرئيسية التى كانت تواجه مصر فى الفترة التى سبقت «ملحمة النصر» هى عدم القدرة على تسليح قواتنا المسلحة بالأسلحة والمعدات «كما ونوعا وتوقيتا» التى تسمح لنا بالقيام بعملية هجومية شاملة لتحرير سيناء.. وفى أواخر «عام 1972»عندما أصبح عامل الوقت ضدنا اتخذ الرئيس السادات قرارا فى الرابع والعشرين من أكتوبر «1972» بأن نحارب بما لدينا من أسلحة ومعدات وعلينا أن نعوض النقص فى التسليح بالتخطيط السليم وشجاعة الرجال فى التنفيذ.
ويقول المشير الجمسي: دخلنا الحرب وكنا نعلم أن إسرائيل لديها التفوق العسكرى على الدول العربية.. ودخلنا الحرب وكنا نعلم أن العدو الإسرائيلى يستند إلى أفضل الأوضاع الاستراتيجية العسكرية.. ودخلنا الحرب وكنا نعلم أن إسرائيل قد ركزت جهدها ضدنا.. ودخلناالحرب وكنا نقدر أن اختراق قناة السويس من أصعب العمليات الهجومية.. ودخلنا الحرب وكنا نعلم أن المخابرات الإسرائيلية بتعاونها مع المخابرات الأمريكية يمكن أن ترصد الاستعداد للهجوم فيبادر العدو بضربة وقائية.. لكن على الرغم من ذلك كله دخلنا الحرب وعبرنا القناة وصيحات الله أكبر تدك كافة حصون إسرائيل.
وفى موضع آخر.. يقول المشير الجمسى إن «ملحمة العبور» حطمت نظرية الأمن الإسرائيلى التى اعتنقتها إسرائيل وثبت لها أن فكرتها عن الحدود الآمنة خاطئة.. ويضيف: لقد اضطرت إسرائيل فى هذه الحرب إلى «الإنسحاب» لأول مرة فى تاريخها «تحت ضغط القوة العسكرية المصرية».. كما أن هذه الحرب هزت المجتمع الإسرائيلى هزا عنيفا بعد أن فقد الثقة فى جيشه وحكومته التى غرست فيه عقيدة التوسع بالقوة وفرض الأمر الواقع على العرب.. لقد أثبتت هذه الحرب أن الجيش الإسرائيلى الذى رسموا له صورة أنه غير قابل للهزيمة قد عاد لمستواه الحقيقى واختفت أسطورة ظلت تهدد لسنوات طويلة.. ويذكر المشير الجمسى أن وزير الدفاع الأمريكى الأسبق جيمس شلزنجر قال عن نظرية الأمن الإسرائيلى بعد نصر العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر».. قال شلزنجر «لقد فشلت نظرية الأمن الإسرائيلي.. والإسرائيليون يدركون الآن أن أمنهم لا يمكن أن يتحقق بمجرد الإحتفاظ بالتفوق العسكرى وقد أصبحت الآن هالة الدولة التى لا تقهر موضع تساؤل».. كما يذكر المشير الجمسى أيضا ما قاله رئيس أركان جيش الاحتلال فى تلك الفترة «ديفيد أليعازر» عن الحرب فقد قال أليعازر «إن كل حرب تحمل معها مفاجآتها وهناك أشياء لابد أن نتعلمها وأن نصحح معلوماتنا بشأنها وكبرى هذه المفاجآت أن الجنود المصريين والسوريين قد أظهروا من الكفاءة والتضحية بالنفس وتوفر الدافع ما يفوق بكثير ما أبدوه فى الحرب السابقة.. إن الجيش الإسرائيلى قد فوجيء تماما بتدريب وكفاءة الجندى العربي».
يتطرق المشير الجمسى إلى نقطة أخرى بالغة الأهمية تتمثل فى «الغرور» الملازم لإسرائيل وقادتها وكيف أن ذلك شعور زائف لا يستند لأى رؤية واقعية.. يقول الجمسي: لقد كان فى تقدير إسرائيل بعد «الخامس من يونيو 1967».. أن تلك الحرب هى آخر الحروب وأن على العرب أن يوقعوا صك الإستسلام.. ولذلك جاءت الكلمات الشهيرة لموشيه ديان «وزير الدفاع الإسرائيلي فى ذلك الوقت» والتى قال فيها «إن الخامس من يونيو 1967 هى الحرب التى أنهت كل الحروب ولم يبق للعرب إلا طلب المقابلة لتقديم فروض الطاعة لاسيما وأنهم يعرفون رقم التليفون والعنوان 31 شارع كابلان فى القدس».. هكذا وصل غرور موشيه ديان وإسرائيل قبل «ملحمة العبور».. ويواصل المشير الجمسي: لقد أصيبت إسرائيل فى تلك الفترة بجنون العظمة لأن جولات الصراع المسلح منذ عام 1948 كانت تشجعها على المضى فى خداع نفسها وخداعنا.. وفى العاشر من رمضان 1393 «السادس من أكتوبر 1973» وجدت إسرائيل أن صرحها الشاهق الذى رسمته لنفسها قد انهار وتقوضت أسسه وجذوره وذاقت إسرائيل طعم الهزيمة العسكرية الحقيقية.
يسلط الجمسى الضوء فى مذكراته على «إشارة» أخرى من الإشارات الدالة أيضا حيث يقول متساءلا هل تصرفات إسرائيل منذ حرب العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» وحتى الآن «عام 1989» توحى بأنها تسعى للسلام أم أنها تسعى لفرض الأمر الواقع على العرب؟!.. ويستكمل المشير الجمسى قائلا: لقد بدأ الصراع المسلح الحقيقى بين العرب وإسرائيل بحرب العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» فقبل هذه الحرب كانت الحرب فى رأى كثيرين شيئا ميئوساً منه ولكن بعد هذه الحرب أصبح الأمر ممكنا.. وتلك هى بداية النهاية فى الصراع العربى الإسرائيلي.. واختتم المشير محمد عبد الغنى الجمسى رؤيته لملحمة العبور فى «الميزان الإستراتيجي» بقوله: إن موشيه ديان «وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق» قال عن «الخامس من يونيو 1967» أنها الحرب التى أنهت كل الحروب.. ونادى الرئيس الراحل السادات أن تكون حرب أكتوبر هى آخر الحروب.. والحقيقة الواضحة على ضوء طبيعة الصراع «كما يقول الجمسي» أن «الخامس من يونيو» لم تكن الحرب التى أنهت كل الحروب.. كما أنه ليس هناك صدى لدى إسرائيل بأن تكون حرب أكتوبر هى آخر الحروب.. ويرى المشير محمد عبد الغنى الجمسى أن «الحرب الرابعة بين العرب وإسرائيل» فرضت حتميتها فى العاشر من رمضان 1393 «السادس من أكتوبر 1973» بعد أن أصبح لا بديل عنها.. وأن «الحرب الخامسة» ستفرض حتميتها إذا لم يكن هناك مفر منها !!.