قبل أن نبدأ الحديث عن عظمة وعبقرية نصر أكتوبر 1973، فإن أهم ما يجب أن يعرفه الشباب والأجيال التى لم تعاصر هذا النصر العظيم أنه لولا زرع الاستعمار القديم لإسرائيل فى المنطقة خلال القرن الماضى لكانت دولنا العربية فى افضل حالاتها ولكان الأمن والاستقرار أهم سماتها، كما أنه لولا وجود الكيان الصهيونى ما كان هناك تطرف أو ارهاب وما كانت هناك أزمات اقتصادية أو اجتماعية، فقد زرع الاستعمار إسرائيل فى المنطقة لتكون ذراعه الطولى وقاعدته العسكرية المتقدمة لأجل إضعاف الدول العربية واستغلال ثرواتها ومنع تقدمها.
لذا فإن الحديث عن مواجهة إسرائيل يجب ألا يقتصر على الحروب التى خاضتها ضد العرب منذ العام 1948 وحتى الآن ولكن من خلال تناول جرائم الكيان الصهيونى باعتباره ذراع الاستعمار وأحد أشكاله الجديدة والتى ظهرت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945 وظهور القوتين العظميين «الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي»- آنذاك– ثم الدخول فى ما اطلق عليه الحرب الباردة بين هاتين القوتين إلى ان تم تفكيك الاتحاد السوفيتى السابق عام 1989 وظهور روسيا كوريثة فى وقت انفردت فيه أمريكا بادارة العالم وفرضت هيمنتها على الخريطة الدولية وسيطرتها على أوروبا وحلف «النانو».
لقد كشفت الأحداث على مدى أكثر من سبعة عقود، أن ما حدث ويحدث فى بعض الدول العربية من تراجع اقتصادى وانقسامات وحروب أهلية جاءت كلها نتيجة مخططات صهيونية، كما كشفت الأحداث انه لولا الدعم الأمريكى والغربى ما استطاعت إسرائيل أن تشن حربها الوحشية فى فلسطين وجنوب ولبنان لذا فإن الحديث عن نصر أكتوبر 1973 يصبح أمرا «ملحا» وفى غاية الأهمية ليس من باب» التباهى والافتخار وهو حق أصيل للعرب والمصريين» ولكن من منطلق الاستفادة من هذه التجربة الرائعة لكونها جاءت بعد هزيمة 1967 وانطلقت رغم أنف المخابرات الامريكية والغربية وبدأت عملياتها فى وضح النهار فى توقيت جديد على العمليات العسكرية محققة معظم الأهداف التى حددتها القيادة المصرية بما فيها تحريك القضية الفلسطينية وتحرير سيناء.
وفى الذكرى الـ»51» لنصر أكتوبر 1973 نستعرض فى هذا التقرير السنوات الصعبة التى سبقت هذا النصر المجيد، وما شهدته هذه الفترة من مماطلة إسرائيل فى المفاوضات السياسية وعدم انسحابها من الأراضى العربية التى احتلتها عام 1967، و ماذا فعلت مصر لإزالة آثار العدوان وكيف نجحت عبقرية القيادة المصرية فى هزيمة « غرور» جيش الاحتلال الإسرائيلي، بداية من إعادة بناء القوات المسلحة ومرورا بشن حرب الاستنزاف وتكبيد العدو أكبر الخسائر، وصولا إلى العبور العظيم فى أكتوبر 1973، فى مفاجأة أذهلت العالم، وأذلت الكيان الصهيوني، ورسخت معانى ومباديء جديدة فى قوانين الحرب مفادها أنه مهما بلغت اسرائل الغطرسة الإسرائيلية ومهما بالغت فى ممارسة قوتها الظالمة والغاشمة، فإنها تظل كيانا صغيرا قابل للكسر والتحطيم وهو ما أثبتته باقتدار القوات المسلحة المصرية فى أكتوبر 1973.
بداية فقد كان الخامس من يونيو 1967 «وبالا» بكل المقاييس ونتج عنه احتلال إسرائيل نحو مائة ألف كيلو متر مربع فى سيناء وغزة والضفة الغربية وهضبة الجولان السورية، وكان واضحا أن إسرائيل وضعت لنفسها هدفا إستراتيجيا بعد الحرب هو منع مصر والدول العربية من تحرير أراضيها بالقوة حتى تجبر العرب على الرضوخ للإرادة الإسرائيلية، ومن هذا المنطلق أفشلت إسرائيل كل المفاوضات السلمية ولم ترضخ لقرار مجلس الأمن «242» الرامى إلى انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها عام 67 والاحترام والتسليم بسيادة كل دولة فى المنطقة، فضلا عن تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين وضمان حرية الملاحة عبر الممرات الدولية فى المنطقة.
كان عدم رضوخ إسرائيل لقرارات مجلس الأمن ولكل مبادرات السلام التى طرحت بعد ذلك لأجل عودة الأوضاع إلى ما قبل 5 يونيو 1967عاملا مباشرا فى الاستعداد للجولة الرابعة ضد إسرائيل، مع الوضع فى الاعتبار الدروس المستفادة من مواجهات «1948 و1956 و1967»، وبصفة خاصة إعداد الدولة للحرب بمضمونه الشامل بتهيئة وإعداد الدولة اقتصاديا وسياسيا وشعبيا ومعنويا- وبالمقام الأول عسكريا- مع اتخاذ الإجراءات التى تضمن استمرار العمل السليم فى مجال الانتاج والخدمات فى جميع مرافق الدولة سواء فى مرحلة الإعداد أو أثناء اندلاع الصراع مع الحفاظ على الروح المعنوية العالية للشعب وقواته المسلحة والتصميم على بذل كل غالٍ ونفيس فى سبيل الإعداد للمعركة وتحقيق النصر كل ذلك طبقا لتخطيط سليم دقيق لجميع نواحى الإعداد مع التنسيق والتعاون الوثيق بين أجهزة الدولة سواء فى المرحلة التحضيرية أو أثناء الحرب.
فى روايته لـ»الجمهورية» فى وقت سابق عن عظمة نصر أكتوبر 1973، قال اللواء حسن الجريدلى الأمين العام لوزارة الحربية إبان الحرب، إنه بالنسبة لإعادة بناء القوات المسلحة فقد روعى عند وضع الهيكل التنظيمى للقوات المسلحة بعد حرب 1967 أن يحقق هذا الهيكل التوازن الإستراتيجى والتعبوى والتكتيكى فى بنائها بما يخدم عمليات ومعارك الأسلحة المشتركة مع استمرار تطوير الأسلحة والمعدات والافراد، وفى محاولة لاستكمال اوجه النقص فى بعض الأسلحة تم استغلال مميزات أسلحة أخرى عمدت القيادة العامة إلى زيادة الكم على ضعف الكيف فيها كما عمدت الى استخدام أسلحة دفاعية فى مهام هجومية لموازنه تفوق العدو، كذلك بدأ تجهيز مسرح العمليات فى الجبهة وباقى المناطق العسكرية حسب أولويات خطة العمليات المتعلقة بالحرب.
وأضاف اللواء حسن الجريدلى أن القيادة العامة رأت أن تتم عملية إعادة بناء القوات المسلحة جنبا إلى جنب بعمليات الاستنزاف ضد قوات الاحتلال لصقل قدرات المقاتل المصرى ومواجهة اسطورة الجندى الإسرائيلى الذى لا يقهر»فيقهره ويسقط هذه الأسطورة الكاذبة بيديه»، ومن ثم فقد اتاحت حرب الاستنزاف للمقاتل المصري- ربما لأول مرة- فرصة الالتقاء بعدوه وجها لوجه وان يتعرف على أسلوب قتاله ونقاط ضعفه، ويتأكد بنفسه من زيف الأساطير التى نسجت حوله واطلقتها أبواق الدعاية الإسرائيلية، ولقد كان لعمليات الاستنزاف أثرها الكبير فى الإعداد المادى والمعنوى لحرب أكتوبر1973 فقد ساهمت فى بناء المقدرة العالية لقواتنا المسلحة.
وأوضح اللواء الجريدلى ان إعداد الفرد المقاتل وتجهيز مسرح العمليات كان الشغل الشاغل للقيادة العامة للقوات المسلحة، وأن الفريق سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة كان يجلس بين الجنود والضباط فى ميادين القتال بالضفة الغربية للقناة، ويتحدث إليهم مستفيدا من أفكارهم ورؤاهم المتعلقة بمجابهة العدو، خاصة ان الكثير منهم كانوا من حملة المؤهلات العليا من جامعات مصر وكلياتها المختلفة، مضيفا أن الفريق الشاذلى اختار موقعا «مائيا» يشبه قناة السويس للتدريب على عبور القناة واقتحام خط بارليف الحصين، وانه استطاع بفكرة بسيطة أن يجعل الجندى يحمل مهماته وأسلحته ويتسلق الساتر الترابى الذى أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية للقناة بسهولة ويسر للعبور والمشاركة فى تدمير خط بارليف، وهو ما قد كان فى الساعات الأولى من حرب السادس من أكتوبر 1973، مبينا أن القيادة المصرية لم تغفل كذلك إعداد الشعب للمعركة وتم وضع خطة لذلك باستغلال قدرات المصريين واعدادهم الاعداد المناسب عسكريا ومعنويا حتى يصبح قوة فعالة مؤثرة فى اى صراع سواء كان لائقا لانضمامه للقوات المسلحة أو أن يكون صالحا لتنفيذ مهام المقاومة الشعبية وحراسة المنشآت الحيوية مع العمل على العمل بين ممارسة الفرد للخدمة الوطنية وممارسة الحياة المدنية.
وفى روايته لـ»الجمهورية» كذلك وفى وقت سابق، قال المشير محمد عبدالغنى الجمسى رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر 73 : إن خطة الخداع الإستراتيجى التى أدراها الرئيس السادات ساهمت فى خداع العدو واقناعه بأن مصر لا تنوى الحرب مبينا أنه فى نهاية شهر سبتمبر بدأت عجلة الاستعداد لحرب أكتوبر تدور وفى سرية مطلقة داخل القوات المسلحة، وفى اليوم الأول من شهر أكتوبر بدأ تنفيذ مشروع تدريبى تم تحت ستارة اللمسات الأخيرة للاستعداد للهجوم وبواسطة القوات فى جبهة قناة السويس وفى كل فروع القوات المسلحة وتم فتح مركز عمليات القوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات حيث استمع الرئيس إلى تقارير القادة ثم تحدث عن مسئوليته عن الحرب وطلب الالتزام بخطة العمليات الموضوعة وان يعمل القادة بهدوء وحرية، ورد المشير احمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة قائلا: «باسم القادة وباسم القوات المسلحة نعد سيادتكم ان نبذل اقصى جهد يتحمله البشر لتحقيق النصر لبلدنا.. كل قائد متفائل فى قدرته على تحقيق مهمته ونحن نشترك مع سيادتكم فى المسئولية وكلنا مسئولون عن البلد معكم».
وأضاف المشير الجمسى انه فى هذا اليوم أصدر الرئيس السادات قراره بالحرب وتضمن التأكيد على تحدى نظرية الامن الإسرائيلى والذى من شأنه الوصول الى حل مشرف لأزمة الشرق الأوسط وكذلك احداث تغيير أساسى فى فكر العدو ونفسيته ونزعاته العدوانية، وفى يوم الخامس من أكتوبر أصدر الرئيس السادات توجيها إستراتيجيا بالحرب الى المشير احمد اسماعيل، وتضمن التوجيه الإستراتيجي: إزالة الجمود العسكرى الحالى بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات، والعمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.. وحسب المشير الجمسى فإن التوجيه الإستراتيجى بالحرب كان له تأثير إيجابى جدا، إذ وفر الأريحية المطلوبة لسير العمليات دون ضغوط على القوات المسلحة أو تعجل فى تحقيق النتائج.
وصف المشير الجمسى ما حدث يوم السادس من أكتوبر 1973 بالانفجار، والضربة القاصمة التى كسرت ظهر قادة إسرائيل، وقال: انه فى الساعة الثانية بعد ظهر هذا اليوم عبرت مائتا طائرة مصرية خط جبهة قناة السويس متجهة إلى عدة اهداف إسرائيلية محددة فى سيناء واحدث عبور قواتنا الجوية خط القناة بهذا الحشد وهى تطير على ارتفاعات منخفضة جدا أثره الكبير على قواتنا البرية بالجبهة وعلى قوات العدو فقد التهبت مشاعر مقاتلينا بالحماس والثقة بينما دب الذعر والهلع فى نفوس أفراد العدو.
وفى نفس الوقت الذى كانت قواتنا الجوية تهاجم أهدافها فى عمق سيناء كان أكثر من ألفى مدفع على طول جبهة القناة ومجموعة من الصواريخ التكتيكية «أرض- أرض» تفتح نيرانها ضد الأهداف الإسرائيلية فى حصون خط بارليف وما خلف هذا الخط من مواقع دفاعية وكانت نتائج هذا التمهيد النيرانى مؤثرة بشكل فعال أوقعت بالعدو خسائر كبيرة فى الأرواح والمعدات وانطلق المقاتلون من المشاة والصاعقة يصعدون الساتر الترابى العالى على الضفة الشرقية ثم يقاتلون العدو الذى كان يواجههم سواء بحصون خط باليف أو حولها، ونجحت قواتنا فى إقامة عدد من الكبارى تم استخدامها فى عبور الدبابات والمدفعية والأسلحة الثقيلة، وبينما حاولت عناصر إسرائيلية منع قواتنا من التقدم والعبور، استمر تدفق قواتنا فى موجات متتالية بلغ عددها حوالى 33 ألف مقاتل بعد خمس ساعات فقط من الضربة الأولى والعبور وتحدى نظرية الأمن الإسرائيلي، وإصابة الكيان الصهيونى بالهلع والرعب من التدمير والانهيار.