ونحن «على بعد» أيام قليلة من «الذكرى الواحدة والخمسين» لملحمة «السادس من أكتوبر 1973».. رحت «أفتش» فى «أوراق النصر» وأعيش معها ومع أيامها.. تلك الأيام التى ذاقت فيها إسرائيل «أول شعور» بمرارة الهزيمة والانكسار « منذ قيامها».. رحت «أفتش» وأنا أعلم أن ذكرى «زلزال العبور» هذا العام تختلف عن كافة الأعوام التى سبقت.. لأنها تأتى وسط أحداث غير مسبوقة تشهدها المنطقة والإقليم وفى المقدمة منها الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة والعدوان المتواصل على لبنان ومايفرضه ذلك من تحديات كبرى تمس «الأمن القومى العربي».. من كتاب «البحث عن الذات» الذى دونه الرئيس الراحل محمد أنور السادات أخذت موقعى هذه المرة لأرى من «زاوية» أكثر دقة ووضوحا.. كيف تم التجهيز والإعداد للحرب؟.. خاصة أن «الراوي» هنا هو الرئيس السادات «صاحب قرار الحرب» والشاهد على كافة تفاصيل «المعركة».. توقفت كثيرا أمام العديد من «المحطات» التى مر بها الرئيس السادات.. رجل جاء به العلى القدير «من أعماق أعماق القرية المصرية» ليقف «ذات يوم» على رأس المدافعين عن «الأرض والعرض» مهددا بضرب «أعماق أعماق إسرائيل».. تحدث الرئيس السادات فى «البحث عن الذات» عن زيارته إلى إسرائيل «من أجل السلام»..وهنا أشير إلى مايمكن أن يلحظه أى متأمل للأحداث حيث يستطيع بسهولة أن يتبين أن «السلام» الذى ذهب من أجله السادات إلى «إسرائيل» هو «سلام المنتصر».. إننى أكاد أرى الرئيس السادات عندما وصل إلى «هناك» وهو يخاطب «شارون» ..أحد عتاة الإجرام الصهيونى والذى كان له دور بارز فى «الثغرة» خلال الحرب..قال السادات لشارون عندما كان ضمن كبار مستقبليه «فى إسرائيل» ..قال له بمزيج من الممازحة والدهاء».. إذا أتيت مرة أخرى غرب القناة فسيكون السجن فى انتظارك»!!.. هناك شيء آخر يمكن ملاحظته أيضا عند تأمل ما جاء فى كتاب «البحث عن الذات» وهو أن الأحداث والمواقف التى ذكرها الرئيس السادات أكدت مجددا تلك الحقيقة القديمة وهى أن مصر فى حربها وسلامها تكون «فلسطين» دائما حاضرة.. حاضرة بسيف التاريخ أحيانا وبحصون الجغرافيا أحيانا أخري.
قلت من قبل.. وها أنا أقول مجددا إن جميع الحروب الفاصلة والحاسمة التى خاضتها مصر كانت فلسطين هناك «وبقوة».. جميع الحروب الأربع التى وقعت فى القرن العشرين منذ «1948» مرورا بحروب «1956» و«1967» وحتى ملحمة العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر 1973».. وجميع الحروب الفارقة قبلها«حطين» و«عين جالوت» كانت فلسطين هناك..حتى فى «معاهدة السلام» ظلت فلسطين فى قلب «الاتفاق».. الارتباط المصرى الفلسطينى لا يقبل شك فيه.. حتى أننى عندما رحت أختار «عنوانا» لما أكتبه «اليوم» وجدتنى أستعير «كلمتين» قالهما الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات فى خطابه التاريخى الشهير فى «الأمم المتحدة» قبل مايقرب من خمسين عاماً.. البندقية وغصن الزيتون.. فى إشارة للحرب والسلام.. فكان «عنواني».. مصر البندقية وغصن الزيتون.. نعم إن الارتباط بين مصر وفلسطين هو ارتباط عضوى غير قابل للتجزئة يؤكد دائما سرا من أسرار كنانة الله سبحانه وتعالى.. التى تتوهج «عبقريتها» عند الحرب وتتجلى «قوتها» وقت السلام.
لأن كتاب «البحث عن الذات» مليء بالرسائل والإشارات الدالة والكاشفة فى اتجاهات عديدة بشكل يصعب معه سرد جميع ما تضمنه الكتاب «دفعة واحدة» فإننى رأيت انتقاء بعض المواقف والمشاهد التى رواها الرئيس السادات.. مواقف ومشاهد يمكن من خلالها فهم كثير من الغموض الذى يكتنف بعض الأحداث والمواقف التى تجرى الآن فى «الإقليم».. يبدأ الرئيس السادات حديثه عن حرب «السادس من أكتوبر «1973» قائلا إنه منذ ما حدث فى «الخامس من يونيو 1967» وحتى عام «1972» لم يذهب إلى الإسكندرية كعادته «فى كل صيف».. لكنه فى ذلك العام «1972» وبعد قرار إخراج «الخبراء السوفيت» توجه إلى الإسكندرية «للاستجمام».. وهناك بدأ الرئيس السادات فى الإعداد للمعركة.. ويروى الرئيس السادات أنه أخذ يمهد للاستعداد للحرب مع الوزراء والمسئولين وكان أبرز ما قاله الرئيس السادات فى ذلك هو استدعاؤه لوزير «الحربية» آنذاك وتكليفه بعقد اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وإبلاغ أعضائه بضرورة أن تكون القوات المسلحة جاهزة للحرب اعتبارا من «الخامس عشر من نوفمبر 1972».
ويضيف الرئيس السادات إنه بدأ فى إجراء العديد من الزيارات الميدانية للقوات ويتوقف طويلا عند زيارة قام بها إلى أحد المواقع على الضفة الغربية لقناة السويس وكان معه المشير أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة فى تلك الفترة..يقول الرئيس السادات إنه ذهب فى أحد الأيام التى سبقت الحرب لزيارة «الجيشين الثانى والثالث» وأنه هناك وقف ينظر نحو «القنطرة شرق» وهى فى يد «إسرائيل».. يروى الرئيس السادات أنه كان يرى أن القنطرة شرق من أهم المناطق التى يجب استعادتها فى الساعات الأولى للحرب لأنها تمثل شيئا هاما جدا لإسرائيل فهى ثانى مدن سيناء بعد العريش العاصمة.. كما أن الرئيس السادات لم ينس ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان بعد احتلال سيناء فى «1967» فقد قال ديان لبعض الشباب الإسرائيليين «لقد تسلمنا الأمانة من الجيل السابق لجيلنا فوصلنا حدود إسرائيل من القنطرة فى مصر إلى القنيطرة فى سوريا وعليكم أنتم الجيل الصاعد المحافظة على هذه الحدود وتوسعونها».. كانت كلمات موشيه ديان مازالت محفورة فى ذاكرة الرئيس السادات.. ينظر إلى الضفة الشرقية لقناة السويس ويدقق النظر فى القنطرة شرق.. يقول الرئيس السادات إنه عندما كان ينظر فى تلك اللحظات إلى القنطرة شرق كان يراوده الأمل فى الرد على موشيه ديان وأن يقول له «إنتهى حلمك للأبد».. صمت رهيب سيطر على الرئيس السادات وهو ينظر إلى القنطرة شرق يتأمل ويتذكر.. صمت جعل القائد العام المشير أحمد إسماعيل يقول له فى رحلة العودة إلى القاهرة «يا أفندم لما شفتك ساكت جالى إحساس إنك حتدينى أمر ببدء الهجوم فورا».
« المشهد» أو الحدث الثانى الذى أتحدث عنه هنا هو ما ذكره الرئيس السادات عن الساعات القليلة التى عاشها قبل أن يستيقظ فى الصباح ويستعد لإدارة «الملحمة».. يصف الرئيس السادات تلك الساعات بأنها كانت ساعات سكينة واطمئنان لم يشعر بها منذ سنوات كثيرة.. يقول: فى يوم الخميس..الثامن من شهر رمضان «الرابع من أكتوبر».. انتقلت إلى «قصر الطاهرة» بعد أن تم إعداده كمركز قيادة لإدارة الحرب.. وفى يوم الجمعة ذهبت لأصلى فى الجامع الذى تعلمت فيه الصلاة منذ خمسين سنة وهو زاوية صغيرة وهناك فى رحاب الله وفى هدوء الجامع شرد ذهنى فى أيام الطفولة.. يضيف: كنت فى ذلك اليوم فى أقصى درجات السلام الروحى فرغم اللحظة التى كنت مقبلا عليها كنت أرنو إلى الغد موعد المعركة على أنه مجرد يوم قدر لى الله أن أعيشه ولذلك دخلت المعركة دون أدنى انفعال أو عصبية.. لم يكن يشغلنى سوى بعض التفاصيل التى لم تكن سوى مجرد رتوش فى المعركة.. وقد يعجب الناس إذا عرفوا أن «ليلة المعركة» كانت من أحسن الليالى التى نمتها فى حياتي.. ولذلك عندما استيقظت فى الصباح.. صباح العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر».. قمت بالتدريبات الرياضية اللازمة وسار برنامجى اليومى كالعادة وكان عقلى فى منتهى النشاط والراحة مستعدا لمسئوليات «اليوم الجديد».
تحدث الرئيس السادات أيضا عن واحد من الأحداث التى كانت «مقربة جدا» من قلبه بعد ملحمة العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» وهى إعادة فتح قناة السويس أمام الملاحة فى عام «1975» بعد توقفها لمدة ثمانى سنوات منذ «1967».. يقول الرئيس السادات عن «يوم إفتتاح القناة».. لا أحد يستطيع أن يقدر الفرحة التى عمت الجميع يوم الخامس من يونيو «1975» وأثرت على النفس.. لا أحد يستطيع أن يقدر هذه الفرحة مثل من اقتلعت جذوره فعانى من إبعاده من هذا المكان..لم تكن الفرحة التى رأيتها فى وجوه الناس فى ذلك اليوم «عادية» فقد كانت فرحة يأس طويل تحول فجأة إلى أمل..لقد هجر هؤلاء الناس «أهالى مدن القناة» بيوتهم لثمانى سنوات كانوا يسألون دائما متى العودة؟.. ويضيف الرئيس السادات: فى ذلك اليوم الذى مازال قريبا من قلبى كل القرب لن أنسى هذا المنظر الذى هز كيانى هزا.. السيارة متجهة لمبنى هيئة القناة وفجأة يعترض الطريق أحد الرجال ويشير إلى السيارة بالتوقف..كان شيخا طويل القامة شعره الأبيض يتدلى على كتفيه مهيب المنظر حاد النظرات رغم شيخوخته..حاول الحراس إبعاده فقلت لهم اتركوه وأمرت السائق بالتوقف.. ويواصل الرئيس السادات حديثه قائلا إن الرجل نظر إليه نظرة طويلة ثم سجد لله شكرا.. ثم بعدما فرغ من السجود قام وأشار إلى الموكب باستكمال المسيرة..وقد علق الرئيس السادات على هذا المشهد بأن هذا الرجل وسجوده لله شكرا يعبر عن مدى الفرحة التى غمرته بعودة وطنه فقد بدد الله عز وجل «الظلمات» بنور لم يكن فى الحسبان.
تطرق الرئيس السادات فى «البحث عن الذات» إلى الزيارة التى قام بها إلى «إسرائيل» من أجل «السلام»..وهنا أنقل من وقائع وصور «المشهد» هذه الصورة التى رواها فى «الكتاب».. يقول الرئيس السادات:وصلت «مطار اللد».. لا أحد يصدق والذهول يسود وبمجرد أن خطوت خارج الطائرة وجدتنى وجها لوجه أمام «جولدا مائير» رئيسة الوزراء والتى بادلتها السلام ثم رأيت موشيه ديان ثم قابلت أبا إيبان وبعده شارون الذى كان لدينا فى «الثغرة» وقلت له إذا أتيت لدينا مرة أخرى إلى الضفة الغربية للقناة فسيكون السجن فى انتظارك..فرد شارون قائلا «أبدا» أنا حاليا وزير الزراعة.. ويشير الرئيس السادات إلى موقف أو «صورة أخري» فيقول :عندما دخلت القدس العربية تبين لى على الفور أن المسجد الأقصى قد ساءت حالته إذ لا تزال آثار الحريق الذى اجتاحه عام «1969» لاتزال قائمة ووجدت أن منبر صلاح الدين قد احترق تماما وأن عملية إصلاحه تسير بصورة بالغة البطء ولذلك أمرت أن يتم بناء المنبر من جديد على أيدى المصريين الذين بنوا منبر «صلاح الدين».
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.