يعد وصول العلاقات المصرية التركية إلى مرحلة جديدة من التقارب ،توجت بزيارة الرئيس التركى أردوغان إلى القاهرة ، أمرا بالغا فى هذه الظروف العالمية والإقليمية ، وتأتى الزيارة تعبيراً عن نجاح قوة مصر السياسية فى تحريك دفة المصالح تجاة حركة المسار المصرى ، وفى ظل وجود تقارب بين الرئيسين السيسى وأردوغان لمواجهة التحديات المشتركة.
لذا تدرك القيادة المصرية أن هذا التقارب هو بداية لتحالف جديد لمواجهة مشاكل المنطقة، مع إعادة الزخم للعلاقات المصرية التركية، لتعظيم توافق المصالح بين البلدين ثنائياً وإقليمياً. وندرك تماماً أن مواجهه التحديات يتطلب حاجة كل من البلدين للآخر ، لمواجهة ما يدور حولهما من إعادة ترتيب للأوضاع ، وإعادة رسم لخريطة توزيع القوة بالشرق الأوسط، والتى تتجاهل أحيانا المصالح الاقتصادية لكل من مصر وتركيا. وعلى المستوى الثنائى تعتبر تركيا الشريك التجارى الأكبر لمصر بحجم تجارة بينية 5.8 مليار دولار عام 2023، كما تعتبر تركيا الدولة الأكثر استيرادا من مصر بمستويات وصل 2.9 مليار دولار ، وبالتالى فقد شهدت العلاقات الاستثمارية تطور واضح السنوات الأخيرة. وهذا تأسيس على أن مصر وتركيا بحاجة إلى إعادة توزيع الثروة فى ظل عالم يحمل عنوان البقاء للأغني، فأكثر أغنياء العالم ثراء استحوذوا على حوالى ثلثى إجمالى الثروة الجديدة منذ عام 2020 وقيمتها نحو 42 تريليون دولار، أى ما يقرب من ضعف ما حصل عليه بقية سكان الأرض.. وياتى هذا بالتوازى بتستر الغرب وراء حضارته المتطورة التى تبهر دول العالم الثالث، لكن خلف ذلك الستار تاريخ مشوه من عمليات النهب لثروات وخيرات تلك الشعوب التى تعيش الآن تحت ثقل الظروف المعيشية القاسية. فقد عكفت الولايات المتحدة ومن وورائها القوى الغربية على إستغلال قوتها العسكرية لإمتصاص ثروات الشعوب الفقيرة فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو ما أحدث فارقاً بين ما يسمى بالدول المتقدمة ودول العالم الثالث، قد يحتاج إلى عقود طويلة لتعويضه، فعلى سبيل المثال بلغت كمية النفط المسروق من العراق منذ بداية الغزو الأمريكى عام 2003 بما قيمته 150 مليار دولار، كما أن الولايات المتحدة غزت أفغانستان من أجل نهب ثروتها المعدنية الهائلة حيث اكتشفت الولايات المتحدة ما يقرب من تريليون دولار من الرواسب المعدنية غير المستغلة فى أفغانستان، أما فى ليبيا التى كانت تنتج ما يعادل مليار دولار يومياً بترول كانت سببا رئيسيا فى حالة عدم الإستقرار التى يعيشها الشعب الليبى حتى الآن، كذلك تبين أن القوات الأمريكية المتواجدة فى سوريا تنهب نحو 66 ألف برميل يوميا، أى ما يعادل 82٪ من إجمالى إنتاج النفط السوري، كما أن فرنسا متمسكة ببقاء مصالحها الإستعمارية فى أفريقيا حيث أنها تضخ نحو 500 مليار دولار سنويا فى خزانة الدولة الفرنسية. والأخطر انها مسئولة عن 61٪ من الإنقلابات التى شهدتها الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية. وبرغم أن أن الناتج الاقتصادى العالمى قد تضاعف أكثر من ثلاث مرات منذ عام 1990. إلا أن أوجه عدم المساواة تقوض التقدم الاقتصادي، الأمر الذى يؤدى بدوره إلى تفاقم الإنقسامات الإجتماعية التى تخلفها أوجه عدم المساواة، وهو ما تدركه جيداً كلا من القيادتين المصرية والتركية بعد عشر سنوات من التأكد من أن إثبات الوجود يكون بإصطفاف الوجود. والتأكد بأنه مع إرتفاع مستوى التفاوت يتعثر الترقى الإقتصادى والإجتماعي، وتتعثر التنمية البشرية، ومن ثم ينكمش النمو الإقتصادي. كما يزداد الشقاق والتوترات والعنف فى المجتمع ، وبالتالى كانت الرغبة المشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادى بين البلدين ورفع معدلات التبادل التجارى من 8 مليارات إلى مستويات أعلى خلال السنوات المقبلة، عبر التعاون فى مجالات البنية التحتية وتوطين الصناعة، وذلك من أجل تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية العالمية على كلا البلدين. فمصر تستهدف الوصول بصادراتها إلى 120 مليار دولار، وتركيا التى تصدر حاليا بـ 256 مليار دولار تستهدف الوصول بصادراتها إلى أكثر من 400 مليار وذلك حتى عام 2028، وعبر قواسم مشتركة أهمها دراسة كافة المقترحات والإنتقادات البناءة التى يوجهها المصدرون من أجل تسريع وتيرة التجارة الخارجية.
ولا شك أن مصر وتركيا ترتبطان بعلاقات ثنائية وطيدة تقوم على تحقيق المصلحة المشتركة، مع عدم التدخل فى الشأن الداخلي، لذا تحرص الحكومة على جذب مزيد من الإستثمارات التركية للعمل بالسوق المصرى والاستفادة من الخبرات الصناعية التركية المتطورة وكذا من فرص الاستثمار .
القاهرة وأنقرة سوف يشكلان تحالفاً تنمويا يتجاوز حدود الإقليم ، بتعزز قدرتهما على اقتحام أسواق العالم ، فالإستثمارات التركية فى مصر تقترب من 3 مليارات دولار ، ويتركز أغلبها فى المجال الصناعي، هذا بخلاف إستثمارات كبيرة فى مجال السياحة والمطورين الصناعيين، فمشروعات مصر العملاقة وعلى رأسها يأتى مشروع محور تنمية قناة السويس تستلزم مضاعفة الجهود لعقد شراكة وتعاون اقتصادي، وبالتالى فإن التشاور مع تركيا لإنشاء منطقة صناعية تركية فى مصر على غرار المنطقة الصناعية القائمة فى مدينة بورصا التركية والمتخصصة فى مجالات المنسوجات والسيارات والمعدات والتكنولوجيات المتقدمة سوف تكون بوابة لزيادة التعاون الاقتصادى والتبادل التجاري. وبالتوازى مع تسريع تسيير خط ملاحى «رورو» بما يسهم فى زيادة حركة التبادل التجارى بين البلدين.
ما نؤكد عليه أن الإقتصادين المصرى والتركى يواجهان نفس التحديات ، نتيجة خروج الكثير من الأموال الساخنة، وارتفاع مستويات التضخم واللجوء لرفع أسعار الفائدة، وتذبذب التصنيف الائتمانى للبلدين، ونقص الدولار ، وأصبحت الحلول المعتادة برفع سعر الفائدة أو تخفيض قيمة العملة أمور غير مجدية لحل هذه المعضلة الاقتصادية. ومن المنطقى أن يوجد إتفاق بين القيادتين على أن تحسين الوضع الاقتصادى يكون بزيادة الإنتاج المحلي، وتنويع مصادر الدخل الأجنبي، وفتح أسواق تصديرية جديدة. لذا فهذه بمثابة فرصة ذهبية للبلدين يمكن إستغلالها لتعزيز وتعميق الإستثمارات والتعاون الاقتصادى والتجارى ، للعبور من هذه الأزمة المالية، والبناء على الروابط الاقتصادية الفريدة بين البلدين والتى لم تعصف بها أو تزعزعها أية خلافات فى المواقف ، كما وجب أن نؤكد أن الزيارة تأتى فى توقيت شديد الحساسية يحتاج فيه كل من البلدين للآخر ، لمواجهة ما يدور حولهما من إعادة ترتيب الأوضاع فى المنطقة سواء بفعل تطورات الصراع والمنافسة داخل النظام الدولى أو المنافسة الإقليمية على إعادة رسم خريطة توزيع القوة بالشرق الأوسط والتى تتجاهل أحيانا المصالح الاقتصادية لكل من مصر وتركيا. والبداية المنطقية تتطلب ايجاد تفاهمات حول ملف غاز شرق المتوسط وزيادة معدل التبادل التجارى بين البلدين واتاحة الفرصة لاستخدام العملة المصرية والتركية فى عملية التبادل التجارى تجنباً للتقلبات فى الدولار.