هناك نماذج متعددة للشخصيات الهشة الرخوة التى لا تقوى على الثبات على موقف، النموذج الصفرى والنموذج الفراغى والنموذج العدمي، لكن الشخص الإِمَّعُ أَو الإِمَّعَةُ هو الْمُتَرَدِّدُ الَّذِى لا يَثْبُتُ على رَأيٍ، وَيُوافِقُ كُلَّ واحِدٍ على رَأْيِهِ وَتُزادُ التَّاءُ فيهِ لِلْمُبالَغَةِ وفى الحديث «اُغْدُ عالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً وَلا تَكُنْ إِمَّعَةً» فالإمع الذى يقول لكل أحد أنا معك، ولا يثبت على شيء لضعف رأيه وضحالة حجته، لقد كثر «الإمعات» فى وادينا الطيب حتى بات إعمال العقل شيئاً من الجنون، والشيء المقلق هو امتداد هذا السلوك إلى بعض النخبة من المثقفين فباتوا يرددون فقط ما يرضى الناس ــ كل الناس ــ ومعلوم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك وسبحان من يرضى العباد، وتخطت الرغبة فى إرضاء الناس إلى مرحلة النفاق التام الممجوج، فالمثقف الحقيقى هو الذى يسبح ضد التيار محاولا تغيير أدبيات وثقافات راسخة فى سبيل تطوير وتقدم المجتمعات، لكن الغريب أننى لاحظت ومنذ فترة طويلة أن أحدًا من هؤلاء لا يثبت على موقف أمام انتقادات العامة والدهماء، فى عصر السوشيال ميديا التى باتت سلاحاً ذا حدود ونصال متعددة تحول المثقف إلى رائد مشهور من رواد مواقع التواصل الاجتماعى وغير الاجتماعي، كنت أظن ــ وبعض الظن إثم ــ أن قادة التغيير من المثقفين لن يرفعوا الراية البيضاء أمام طوفان التفاهة والسطحية والضحالة القادم من حسابات ومواقع السوشيال ميديا، لكن الصدمة كانت قاسية، لم يثبت معظم مثقفينا أمام موجات الفوضى المعرفية والنفايات الفكرية ولم يخوضوا معارك حقيقية لمواجهة الوافدين الجدد وما يحملونه من أفكار هشة تقود المجتمعات إلى الفوضي، فعندما وقعت الواقعة الكبرى فى 2011 تبخرت كل الأفكار وكل الثقافات واختفى المثقفون والمفكرون وانسحبوا انسحابا مهينا، لم نجد ساعتها إلا القليلين ليدافعوا عن مفهوم الدولة الوطنية والجيش الوطنى وفضح كل مخططات الفوضي، لقد وجدنا كل هؤلاء يخرجون من صفوفهم القديمة غير عابئين بما كتبوه وسطروه وصدعوا رؤوسنا به عبر سنوات جلوسهم على مقاعدهم الوثيرة وينضمون بسهولة ودون أن يدعوهم أحد إلى صفوف وطوابير النشطاء من أحفاد أبى جهل! لقد هالنى أن أجد هؤلاءالمفكرين والمثقفين يسيرون ويهتفون خلف أحد خريجى حانات وسط البلد وهو يتطاول على الدولة ومؤسساتها، هؤلاء جميعا يختبئون مع أى أزمة ثم يظهرون بعد انتهائها ثم يعاودون الاختباء مجددا مع ظهور أزمة جديدة، لكن لماذا أكتب هذا الآن؟ للأسف الشديد لقد كشفت الحرب الدائرة فى غزة ومجرياتها ونتائجها حتى الآن «هشاشة مفرطة» فى ثوابت الكثيرين، فمن كان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن إسرائيل دولة عادية ويجب ان تكون العلاقات معها عادية وطبيعية ويمكن كذلك أن تكون دولة صديقة وسوقوا على مدار سنى عمرهم لمفاهيم التطبيع مع الكيان الصهيونى وخاضوا حروبا ومقاسات ومقاطعات، تراجعوا فجأة ودون سابق إنذار عن كل ما آمنوا به وتحول الإيمان الراسخ إلى كفر بواح!! القضية عندى ليست تغييراً إلي، فما يشغلنى هو كيف تحول الإيمان المطلق إلى كفر مطلق؟ والسؤال هل كان الإيمان إيمانا بحق؟ وهل أصبح الكفر كفرا حقيقيا؟ عندما أنظر إلى أحد هؤلاء المفكرين الذين آمنوا بإسرائيل وروجوا لها ودافعوا عنها لمدة نصف قرن وأجده يغير رأيه فى لحظة تأريخ فيها بالشعور العام الكاره لهذا الكيان، هل اعتبر هذا مفكرا ومثقفا قادرا على قيادة المجتمع فى اتجاه ما؟؟ والأخطر كيف لنا أن نثق فى قراءات وفهم ودراية هؤلاء وآرائهم فى قضايا أخرى مماثلة؟ بيد أن هناك مرضاً جديداً ــ قديماً أصاب نخبتنا وهو ما أسميه «متلازمة الإمعات» هذه المتلازمة التى ضربت قواعد الكثير من المثقفين والمفكرين، من وقف مع اليسار وانتقل إلى اليمين ومن دافع عن الاشتراكية نهارا ونام فى أحضان الرأسمالية ليلا، من وقف مدافعا عن الحرية وهو يمارس فنون العبودية، من عشق عبدالناصر فى حياته ثم حاول طعنه وهو فى قبره، من ذهب مع السادات إلى تل أبيب ووقف يصافح قتلة السادات، من وقف مصفقا وداعما لمبارك ومستفيدا من عصره ثم انضم للثائرين عليه مرتميا فى أحضان الإخوان، من وقف يهاجم الجيش والشرطة والدولة فى يناير ثم انتقل إلى الطرف الآخر من النهر محتميا بهم فى لحظات خوفه من عنف الإخوان، من وقف مؤيدا دون شروط للمشير السيسى «البطل والأيقونة» فى لحظات سيطرة الإخوان ثم يتحول تدريجيا ليقول للرئيس السيسى أين فقه الأولويات؟ الذى وقف يحب الوطن على شرط وجوده على أحد كراسى السلطة وإلا سينقلب ليقف فى صفوف المعارضة الفكرية، إن هؤلاء مصابون عندى «بمتلازمة الهوي» أو متلازمة الإمعات، أتقبل على مضض ان تخرج هذه السلوكيات من الساسة أو قادة الأحزاب،أما أن يقوم بها مثقف أو مفكر فهنا يكمن الخطر الحقيقى وهو أننا بلا بنية تحتية ثقافية أو فكرية قادرة على الحفاظ على ثوابت الدولة والمجتمع، وأتمنى أن أكون مخطئاً.د