الكثيرون يموتون يومياً.. لكن القليل جداً منهم الذين يتركون بصمة تدل على أنهم شاركوا فى بناء أوطانهم.. وربما يذهبون إلى طى النسيان، إلا من عائلتهم الصغيرة جداً المحدودة العدد.. لكن طلعت باشا حرب يظل ظاهرة مختلفة، ربما هذا الجيل الذى ولد مع الألفية الجديدة لا يتذكر منه إلا شارعا وميداناً وتمثالاً فى وسط قاهرة المعز.. وربما من يدخل بنك مصر أحد أشهر البنوك المصرية وأول بنك مصرى 100٪ أنشئ على يديه بـ «80» ألف جنيه قبل 104 أعوام تقريباً، ويرون تمثاله وصوره فى فروعه وبعض المدارس التى تحمل اسمه والمنتشرة فى مدن وقرى مصرنا الغالية ويمرون على الصورة المعلقة والتمثال الذى فى مدخل البنك مروراً عابراً.. إنه بالفعل «أبو الاقتصاد المصرى».. وقد يقف الكثير من خبراء الأنساب عند أصول وجذور العائلة «حرب».. هل من الجزيرة العربية وتحديداً مكة المكرمة والمدينة المنورة، أم من العراق وهاجرت إلى جزيرة العرب فى المدينة المنورة بعد مكة المكرمة ومنها وصلت إلى مصر واستقرت فى أحضان الشرقية وتحديداً فى قرية «ميت أبوعلى» التى نشرت هذه الجريدة فى عددها فى 25 أكتوبر عام 1978 صورة لمنزل العائلة القديم بالقرية التى تتبع مركز منيا القمح.. وكما اختلف البعض على الجذور، اختلفوا أيضا على مولده، هل فى الجمالية وتحديداً فى منطقة قصر الشوق وبين القصرين والسكرين ، حيث ثلاثية نجيب محفوظ أديب نوبل.. والمؤكد هنا أن والدته التى تنتمى لعائلة «صقر» انتقلت مع الوالد حسن حرب الموظف فى سكك حديد مصر الحديثة النشأة وقتها.. وبعيداً عن حقيقة المولد سواء فى قرية ميت أبوعلى، حيث العائلة تنتسب وتعيش وقتها، إلا أن الحقيقة الخالصة أنه– أى طلعت حرب– يعد واحد من عباقرة الاقتصاد المصرى الذى سبق عهده بأفكاره، كان وطنياً دون أن ينتمى لحزب معين أيام الخديو اسماعيل أو ما بعده، فقد ولد طلعت حرب عام 1867 قبل عامين من افتتاح قناة السويس، كما شهد عام مولده أيضا إنشاء أول حياة نيابية فى مصر، وسط أسرة هو ابنها الاكبر وله شقيقان عبدالعزيز ومحمود وشقيقة واحدة.
بداية حياته التعليمية
رعاه والده فى البداية بتعليمه مبادئ القراءة وحفظ القرآن ومنها إلى المرحلة الابتدائية، وفى المرحلة الثانوية التحق بمدرسة التوفيقية وكان بشهادة مدير المدرسة نابهاً وذكياً ولماحاً ومحل إعجاب لأساتذة المدرسة، فهو ليس مولوداً وفى فمه معلقة من ذهب، وكان نصير الفقراء.
دعونا نعود فى هذه السردية إلى الوراء مع الدرس.. الاقتصادى الأول.. لماذا نبغ فى الاقتصاد؟.. لقد عاصر قصة والده عندما ضاقت به الحياة فى قريته ميت أبوعلى، قبل أن يلجأ للعمل بالقاهرة عندما نضبت موارد الأرض أن تكفيه، فجاء مع زوجته إلى القاهرة وعمل فى السكك الحديدية. وانتقل إلى الدائرة السنية.. ومن قصص الوالد فهم الطفل الصغير حاجة المصريين وحاجة البسطاء إلى مشروعات يعملون فيها .. ومن هنا ولدت معه عبقرية التفكير الاقتصادى.. فقد كان الخديو اسماعيل قد قدم امتيازات للأجانب واشتروا الأرض من الفلاحين.. وأمام فورة الامتيازات للأجانب، قال جمال الدين الأفغانى عبارته الشهيرة «إنى أعجب منك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك، لماذا لا تشق بهذه الفأس صدور ظالميك»، وكانت العبارة رداً على فرمان الامتيازات للأجانب والسماح لهم بشراء الأراضى، و درساً مهماً للفتى الذى يدرس فى مدرسة التوفيقية بشبرا.
وزيران أجنبيان مع نوبار
اللافت عام 1879 تم تشكيل حكومة نوبار باشا وبها وزيران أحدهما فرنسى للأشغال، والثانى انجليزى للمالية.. وهنا تولدت لدى طلعت حرب أهمية الرأسمالية الوطنية فى وقت مبكر، عندما اجتمع الأعيان فى منزل رئيس مجلس الشورى راغب باشا فى 4 ابريل 1969 لمناقشة فكرة إنشاء بنك وطنى برأسمال 14 مليوناً، وهو رقم كبير جداً وسط ظروف مصر الاقتصادية الصعبة، بعد افتتاح قناة السويس بعقد من الزمان تقريباً وفى محاولة للفهم ترسخت لدى طلعت حرب أهمية هذه الخطوة، وفى وطن يعيش «محنة» عزل اسماعيل وجاء توفيق والشاب طلعت حرب يعيش حرب أفكار داخلية حول الهوية والتى تتسرب فى شقوق الوطن من هنا وهناك وبين جدرانها وسط شعور بالتخلص من الاستعمار.
يقف المؤرخون طويلاً عند ثورة عرابى ضد القصر.. واللافت أن حرب من الشرقية وعرابى أيضا والقريتان ليستا بعيدتين جغرافياً، وطلعت حرب القادم إلى القاهرة من خلفية ريفية وبين التعليم الأولى فى الكتاب إلى المدرسة الابتدائية إلى التوفيقية فى شبرا، التى كرمه مديرها بإقرار صرف مكافأة شهرية له لنبوغه فى الرياضيات والتاريخ قدرها جنيه واحد شهرياً.
وبعد اتمام الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الحقوق الخديوية التى حلت محل مدرسة اللغات التى أنشأها محمد على باشا وفيها تعلم الفرنسية التى أجادها، بجانب القانون ونال شهادة الحقوق بعد الاحتلال الانجليزى بـ 3 سنوات عام 1885، نفى عرابى لم ينساه وأيضا واقعة المواجهة للخديوى، واستمر «حرب» فى الدراسة فى عام 1886 حصل على مرتبة الشرف فى الترجمة.
محل ألبان وبقالة
فى محاولة للعمل الحر، افتتح مع صديق له فى تجربة عملية محل لبيع الألبان والبقالة، وكان يديره معه صديقه فؤاد حجازى، وسرعان ما فشل المشروع، واتجه إلى العمل فى مجال آخر.
اتجه بعدها للعمل فى الدائرة السنية دائرة أملاك الخديو اسماعيل نظير راتب شهرى 10 جنيهات، وترقى فيها فى عام 1889 رئيساً للمحاسبات ومديراً لمكتب تسوية المنازعات وظل بها حتى عام 1902 لتسديد الديون التى اقترضها الخديوى قبل خلعه عن العرش عام 1879.
عمله فى الدائرة السنية كان جسر علاقة لطلعت حرب مع ملاك الأراضى وحصل على «البكوية» وعمل فى شركة كوم امبو التى كانت تملكها عائلة يهودية يوسف فطاوى وهو يهودى مصرى تولى المالية عام 1924، وكان قد تعرف على رجال الأعمال خطوة مهمة لتأسيس بنك مصر، حيث لم يكن بعيداً عن مجتمع الملاك والأعمال. . ومع يوسف قطاوى فى تأسيس البنك
فى هذه الأثناء وقع حادث دنشواى ومحاكمة أبناء القرية من الفلاحين وإعدامهم فى «جرن» القمح، وهى الحادثة التى ألهبت الحماس الوطنى لدى الزعيم الوطنى مصطفى كامل وأيقظت مشاعر المصريين ضد أخطار الاحتلال، وبدأت صيحة الجلاء متزامنة مع دعوة طلعت حرب لاستقلال اقتصاد مصر.
وفى هذه الأثناء وبعدها فى عام 1909، اجتمع عدد من الماليين فى تجربة أولى لتأسيس بنك وطنى، وفى يناير 1910 تم تأسيس شركة تعاونية تجارية للائتمان، وفى ابريل عام 1911 تم استثمار روح العمل المصرية ونجح المؤتمر المصرى الأول فى استصدار قرار لمشروع إنشاء بنك وطنى، وعليه تم إيفاد طلعت حرب إلى أوروبا لدراسة فكرة إنشاء البنك وإجراء دراسة حوله. وإنشاء بنك للمصريين أو بنك الأمن
اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914 لتعرقل المشروع بعض الوقت، وبعدها أعلن وعد بلفور المشئوم 1917 ثم بعدها قامت ثورة 1919 بقيادة سعد باشا زغلول.. وهنا من رحم الثورة تحمس طلعت حرب لإعادة طرح المشروع الوطنى بإنشاء بنك واستثمار الروح الوطنية بالتصميم على إنشاء البنك.
لقاء المستشار الإنجليزى
ونظراً لأن دعوة طلعت حرب وجدت صدى فى الشارع المصرى، الأمر الذى جعل المستشار الانجليزى يستدعى طلعت حرب ويؤنبه بكلمات قاسية، بقوله: كنت أظنك رجلاً عاقلاً، لكنك فيما يبدو لى أصبت بعدوى الجنون المنتشر فى البلد هذه الأيام، هل تتصور أن المصريين يستطيعون أن يديروا بنكاً؟!، إنكم لا تصلحون للأعمال المالية، انها صناعة الأجانب وحدهم، وأضاف وطلعت يصغى له انت تعرف ان فى وسعى أن أمنع قيام هذا البنك، لكننى وافقت على قيامه لأعطيكم درساً فى الفشل، وكل ما أنصحك به أن تشرك معك بعض الأجانب حتى تعطى شعوراً بالثقة فى هذا البنك.
رد طلعت حرب: قررنا أن يكون مصرياً 100 ٪، فقال له بعجرفة: أنت تتكلم بلغة تظاهرات الشوارع، فالذى يصلح للشارع، لا يصلح لأعمال المال والبنوك.. قد أستدعيك لأنصحك، فأنت رجل طيب لا تشتغل بالسياسة.
بعد المقابلة، صمم طلعت حرب على المضى فى طريقه.. وبالفعل تم توقيع عقد تأسيس البنك فى 8 مارس 1920 بين 126 مساهماً هم الكوكبة الأولى لأول بنك مصرى وبرأسمال مصرى وبأسهم المصريين 4 جنيهات للسهم وقيمة 80 ألف جنيه، وكان منهم 8 وقعوا الوثيقة الأساسية وهم أحمد مدحت يكن باشا، يوسف أصلان قطاوى باشا، طلعت بك حرب، عبدالعظيم بك المصرى، د.فؤاد سلطان، عبدالحميد السيوفى أفندى، والملاحظ أن الوثيقة الأولى ضمت مسلمين ومسيحيين ويهوداً فى وحدة وطنية تعكس صورة مجتمع مصر، وفى 7 ابريل 1920 صدر المرسوم الملكى بتأسيس شركة مساهمة مصرية تسمى «بنك مصر» فى نجاح الحلم لطلعت حرب برأسمال 80 ألف جنيه، كما جاء فى الوقائع المصرية موزعة على 20 ألف سهم بـ 4 جنيهات للسهم.
فى دار الأوبرا السلطانية مساء الجمعة 7 مايو 1920، أعلن طلعت عن تأسيس البنك، معترفاً بأن فكرته سبقه إليها آخرون لمصلحة الوطن.. وحقيقة، طرح فى عهد اسماعيل بسبب الديون، وفى ٤ ابريل 1879 وفى صدفة غريبة أصدر الخديو اسماعيل قراراً بتعيين وزيرين أجنبيين فى حكومة نوبار باشا، الأول للمالية انجليزى، والثانى للأشغال فرنسى وسط أزمة كبيرة.
فى منزل راغب باشا رئيس مجلس الشورى، التقى كبار الأعيان والتجار لمحاولة تخليص مصر من ديونها بافتتاح بنك وطنى برأسمال 14 مليون جنيه، وتسرب الأمر للصحافة عبر جريدة «التجارة» التى كان يصدرها أديب إسحاق فى مقال بعنوان «البنك الوطنى» فى خطوة مصرية مهمة نحو بنك وطنى، لكن عزل اسماعيل وتغيب الفكرة حتى بلغها طلعت بك حرب لكسر الاحتكار الأجنبى.
لم يكن الطريق ممهداً ومستعداً، وليس سهلاً.. فقد أخذ «حرب» على عاتقه دعوة أصحاب الأراضى والتجار دعوتهم مع فريقه لإنشاء بنك مصر فى وقت البلد تبحث عن هوية بعد تسرب أفكار الغرب فى شقوقها وجدرانها وكان الوضع ليس حسناً، لكن حرب كان مؤمناً بحيوية الدولة ومواطنيها ولم ينس أنه أول مصرى يرأس شركة كوم امبو التى أسسها لاستصلاح الأراضى.
كان واضحاً أن العلاقة بين طلعت حرب والملك فؤاد فاترة وعدائية فى بعض الأوقات، وهذا راجع لانتقاد حرب نفسه للأسرة المالكة والمصاعب التى ولدت معه صغيراً فى نزوح والده فى قرية ميت أبوعلى وقرية والدته إلى القاهرة وكان محور انتقاده عقد حول قناة السويس وتأجيرها، خاصة عندما ارتفعت نغمة نقد طلعت حرب علانية فى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى وكان القصر لا يساند مشروعه المصرفى ونكاية فى «حرب» منح عبود باشا اللقب عام 31 قبل سنوات من طلعت حرب الذى لم يحصل عليه إلا عندما دعا الملك فؤاد لافتتاح قلعة الغزل والنسيج فى المحلة، فبعد جولة الملك فى المصانع خلال الزيارة، قال له موجهاً كلامه مسموعاً لطلعت حرب: «مبروك يا باشا».. وكان ذلك إيذاناً بمنحه «الباشوية» عام 36 وهو العام الذى أطلق اسمه على أحد شوارع القاهرة المهمة، وأقيم تمثال له فى الميدان الشهير حتى الآن.. واللقب لم يسع لأنه نصير الفقراء والباشا كان يمنح للأثرياء يوسف قطاوى الذى يحمل الديانة اليهودية والعضو معه فى البنك، وهنا نجح ابن مصر فيما فشل فيه الباشا محمد على بتأسيس بنك وطنى «خالص» فى خطوة عملية للتخلص من الاستعمار، فقد بدأ محمد على مشروعه التحديثى وواصلها بعد عقود عرابى فى مواجهة «السرايا» لتحقيق صيغة وطنية تجاه به فساد القصر والديون المتراكمة ووسط تغول الأجانب بامتيازات من حق الشعب، ونجح طلعت حرب فى تأسيس البنك الذى فشل فيه محمد على عندما حاول عام 1840 لإنشائه وتكالبت القوى الأوروبية فى مؤتمر لندن وقتلت التجربة وكتب عنها فى ذاك الوقت أمين شميل وحاول عرابى إنشاء بنك التسليف للفلاحين، ولكن فشل ونُفى ولم تنجح التجربة أيضاً .
رحلته إلى أوروبا ووفاة زوجته
لم تكن رحلته لأوروبا فى فرنسا وألمانيا للسياحة، بل لدراسة أصول تأسيس بنك بمواصفات حديثة ليرد عملياً على المستشار الانجليزى.. وفعلاً نجح طلعت حرب فى دراسة أساليب إدارة المصارف الأوروبية والتنمية البشرية المصرفية .
رغم وفاة زوجته وهو على مشارف الخمسين، إلا أنه لم يتزوج بعدها وفاء لها ولذكراها وتفرغ لتربية بناته بعد وفاة نجله الوحيد حسن وعمره «20 عاما» ورعى بناته، الكبرى فاطمة التى تزوجت المستشار عبدالوهاب عزت، وخديجة التى تزوجت د.محمود سامى أشهر أطباء مصر فى ثلاثينيات القرن الماضى، وعائشة التى تزوجت عبده برهام الذى أصبح سكرتيراً عاماً لبنك مصر، وهدى أصغر بناته التى تزوجت الاقتصادى محمد رشدى الذى حمل رسالة طلعت حرب وتدرج فى البنك وترأس إدارته بعد ذلك بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر.
أدرك «حرب» أهمية السينما فى صناعة الوعى وكان حلمه أن يعطى للسينما المصرية انطلاقة واعية وأعطاها اندفاعة حقيقية وفى نظرة للعالم حولنا فى عواصم السينما العالمية، ومن واقع أن السينما يمكن أن تكون مشروعاً اقتصادياً وثقافياً وتنويرياً، واطلع على الاستوديوهات فى فرنسا وألمانيا عام 34 وقرر إنشاء استديو مصر فى الجيزة ودعمه بالعناصر البشرية وهنا أرسل بعثات مهمة لدراسة السينما بينهم أحمد بدرخان وموريس كساب للإخراج فى باريس وولى الدين سامح ومصطفى والى ونيازى مصطفى وتم افتتاح استديو مصر بحضور أكثر من 50 شخصاً ووجوه الفن والسياسة عام 1935 وكان فيلم من بطولة وغناء كوكب الشرق أم كلثوم «وداد» أول إنتاجه، ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف استوديو مصر عن الانتاج ومنه خرجت أفلام مهمة منها «سلامة فى خير، قطار الليل، لحن الخلود، لا شىء، النائب العام».
صدمة ثرى المنيا
وفى جولاته لدعوة التجار والأثرياء للمساهمة ذهب إلى المنيا وبعد حديث طويل مع هذا الثرى الذى قال له ما معناه «الله يحنن عليك».. وقدم فقط له مبلغ 20 جنيهاً.. لم يرفضها وعندما أسس البنك ارسل له قسيمة بـ5 أسهم.
وحقق حلمه أمام البنك الأهلى الذى تأسس 1898 برأس مال 900 ألف جنيه مصرى «مليون استرليني» محققاً حلماً وطنياً للاقتصاد المصرى بشركات البنك التى انشأها ويكفى انه اختار المحلة الكبرى لاستغلال القطن بدلاً من تصديره بأبخس الأثمان إلى لانكشير انجلترا.
وتم تشكيل مجلس الادارة من 10 أشخاص من بين ساهموا فى جمع المال 126 مصرياً فى دولة بها 9 بنوك 3 انجليزى وواحد انجليزى فرنسى مشترك و2 إيطالى و2 فرنسى وبنك واحد ياباني- فرنسى مشترك.
وبانشاء البنك وجه ضربة للاستعمار وخاصة بريطانيا ان العزيمة المصرية قادرة على صنع المعجزة وان البنك سيؤدى رسالته رغم صغر الملاءة المالية 80 ألفًا فى التمويل والعمل ولذا رفع رأس مال البنك بعد ذلك إلى 175 ألفاً عام 1921 ثم نصف مليون عام 1925 فيما ارتفعت الودائع عام 38 إلى 5.7 ٪ وعام 1941 أصبحت 7.1 ٪ وكان يميز سهم البنك «4 جنيهات» فتح باب المشاركة لصغار التجار والمستثمرين ومن يملك 5 أسهم يحق له حضور الجمعية العمومية.
وصمد البنك أمام محاولات الافشال من البنوك الأوروبية حاملاً شعار طلعت حرب أمام شعار الأجانب أن المصريين لا يصلحون لادارة المصارف واللافت أن الأجانب حصتهم فى بنك مصر – الآن- ودائعم لا تمثل 0.6 ٪ فى الوقت الذى كانت ودائع البنك فى السنوات الأولى قد بلغت 11.68 مليون وشملت الودائع 4.5 مليون جنيه.
كان اهتمام طلعت حرب بالكوادر البشرية واضحاً فكما ابتعث أصحاب الفكرة معه للخارج ليدرس الحياة المصرية أيضاً ابتعث كوادر بشرية من البنك للخارج للتدريب والعودة بالخبرة وارتفع عدد الموظفين من 33 موظفاً عندما بدأ العمل عام 1920 إلى 769 عام 38 فيما بلغ عدد العاملين فى شركات البنك المختلفة التى تجاوزت 22 شركة اسسها ما بين 1920 -1938 نحو 35 ألف بمرتبات تتجاوز المليون ساهمت فى عمل المصريين.. وكان رداً عملياً على الأوروبيين.
ويختلف عن البنوك الأخرى التى هدفها اقراض الخديو وأصحاب كبار الأملاك ويملكها أجانب.
يذكر الكاتب الصحفى الزميل رشاد كامل حول التجربة فى كتاب «طلعت حرب ضمير وطن» ان السيدة فاطمة اليوسف ذكرت ما حدث مع ثرى المنيا.. وان شيخ الصحفيين حافظ محمود تحدث عن التجربة وأن طلعت حرب خاضها وهو يعلم ان الأجانب سيواجهونها.
هدى والرافعى ودرويش
وعندما لمست هدى شعراوى قائدة الحركة النسائية ما يقوم به الشباب من الدعوة لتجربة طلعت حرب لم تصمت وكان ضميرها مع الفكرة ودعت حرب مع سيدات المجتمع المخملى الذين كثير منهن يخشين التجربة وطالبتهن بمساندته وقدمن له ثمن 500 سهم.
المؤرخ عبدالرحمن الرافعى وقف بالتقدير مع التجربة ودعا للمشروع عبر مقالات فى جريدة الأخبار بعنوان «بنك مصر وبنوك بولونيا» وأسس فى المنصورة لجنة للدعوة للبنك وقال قولته الشهيرة «تأسيس بنك مصر هو نواة النهضة المالية والاقتصادية التى بدأت بعد الحرب العالمية والنتيجة المهمة لثورة 19».
دخول سيد درويش على خط طلعت كان بأغنية دارت فى الشارع المصرى بكلمات يقول فيها:
ثروتنا فين الاقتصادية.. وفين كبارنا وفين أولفاتهم.. حاطينها فى ايدين الافرنجية.. وهم يا فرحتنا يكترتهم..المصرى أولى بقرش المصري.. يفضل فى ايده ما يتبعترشي.. هما بمالهم واحنا بروحنا.. دى ايد لوحدها ما تصقفشي
عقد الشراكة
وفى 3 أبريل صدر المرسوم عام 1920 يضم الأسماء التالية فى عهد وهبة باشا وزير المالية وقتها: أحمد مدحت يكن ويوسف أصلان قطاوى ومحمد طلعت حرب وعبدالعظيم المصرى بك واسكندر مسيحة أفندى وعباس بيومى الخطيب أفندى ونص العقد أن مدته 50 عاماً.
وجاء مجلس الادارة الأول: أحمد مدحت يكن ويوسف أصلان قطاوى ومحمد طلعت حرب وعبد العظيم المصرى وفؤاد سلطان وعلى بك ماهر ويوسف شكوريل بك وعبدالحميد بسيونى أفندى وعباس بسيونى الخطيب أفندى وانتخب أحمد مدحت بك يكن رئيساً لمجلس الادارة وظل يشغل المنصب حتى 1940.
وتولى طلعت بك حرب العضو المنتدب حتى 1939وكان الشرط ان يمتلك عضو مجلس الادارة 250 سهماً.
وجاء فى إعلان البنك كلمة طلعت حرب التى لا تزال تحملها الذاكرة المصرية «مصر اليوم أحق باستخدام أموال بنيها ومصالحها وشؤونها».
لإنقاذ البنك
كانت تجربة طلعت حرب محل انتقاد الأجانب خاصة الشركات التى أسسها والتابعة لمشروعه المصرفى وواجه الكثير من الصعاب خاصة من المندوب السامى البريطانى على أمل إزاحة حرب من طريقهم وافشاله وحانت لهم الفرصة أيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 وسط بلبلة وسحبت الأموال من بنك مصر خاصة ودائع صندوق البريد الحكومي.
مما ولد أزمة مصطنعة أثرت على البنك وزادت عندما ذهب طلعت حرب إلى حسين سرى باشا وزير المالية لمحاولة انقاذ البنك والتدخل لوقف سحب الودائع الحكومية أو دفع البنك الأهلى لاقراض أموال المودعين.. أو اصدار بيان بضمان أموالهم.. وكان الرد الصادم للرجل الذى بلغ من العمر 71 عاماً.. ولمس من ردود على ماهر رئيس الوزراء ما معناه ان ثمن الانقاذ «رحيل حرب».
ولأن طلعت حرب كان يعيش حلماً وطنياً مصرياً وليس مجرد مشروع مصرفي.. وقال كلاماً مهما للتاريخ إنه يقبل أن يكون «قربانا» على مذبح البنك وقال «مادام فى تركى حياة لبنك مصر فلأذهب أنا وليعش البنك» بفروسية ترك البنك.. وبمجرد استقالته تم تقديم القرض المطلوب 2.5 مليون جنيه للبنك.
وفى حوار صامت مع نفسه قال «لقد مت ولم أدفن».
المتحف يحكى القصة
تراث طلعت حرب جمع فى متحف ساهم فيه ابناؤه وزوج ابنته محمد رشدى الذى تولى رئاسة البنك عام 1959 بقرار من جمال عبدالناصر ويضم المتحف صور طلعت حرب.. ومن يدخل المتحف يكون لافتاً صور مكتب حرب وشكل الكراسى بدون ظهر وهى فلسفة أنه لا يجلس العميل طويلاً فى مكتبه لا يجلس كثيرًا احتراماً لوقت العمل.. ويضم المتحف قلادة النيل وعدداً من الأكواب وقطعة من كسوة الكعبة اهداها له الملك عبدالعزيز آل سعود وصور لمشروعه فى الصفا والمروة ومشروع نقل مياه زمزم وسفينة الحجاج إلى مكة المكرمة.. وقد منح قلادة النيل فيما كرمت ابنته هدى فى يوم المرأة العالمى عام 1996 وتسلم قلادة النيل أحد أحفاده من ابنته فاطمة وهو السفير جلال عزت مع السيدة آمال حفيدته من الرئيس أنور السادات.
الوفاة والجنازة
بعد الاستقالة ركن طلعت حرب إلى الهدوء متتبعاً انجازه الكبير عن بعد حتى أعلن وفاته وكانت الجنازة غير عادية شارك فيها الأحزاب والعاملون فى شركاته وتجمع فى السرادق الذى أقيم بجوار داره بالعباسية فى شارع الملكة نازلى ومع كبار رجال الدولة والأزهر الشريف من وزراء وأعيان وسارت حتى جامع قبة الفداوية حيث تمت الصلاة عليه وسط زحام كبير فى شوارع الجيش والعباسية وشارع سليم عبده إلى مقبرة الخفير عبر شارع الظاهر برقوق إلى المدفن والقيت كلمات التأبين.. لنطوى صفحة رجل مهم كان واعياً بضمير وطنه وأمان أمته.. رثاه الشعراء والكتاب وكبار رجال الدولة.. ويظل طلعـت حـرب اسماً مصرياً مميزاً وخالدا يتذكره الجميـع بعد مرور 157 عاماً على مولده.. و83 عاماً على وفاته.