تحديات «اللحظة» وطبيعة المرحلة والظروف التى تمر بها «المنطقة» خاصة فيما يتعلق بالأمن القومى.. كل ذلك فى تقديرى يحتم على مراكز الأبحاث والدراسات المعنية استدعاء العديد من «حوادث التاريخ»وإعادة قراءة ما يجرى فوق «مسرح الأحداث» فى ضوء الثوابت التى أكدتها تلك الحوادث من قبل.. لأن ذلك ربما يساهم فى إيجاد إجابات شافية لكثير من «علامات الاستفهام»التى فرضتها التفاعلات «الخشنة والناعمة» والتى تموج بالإقليم والعالم.. ومن بين «حوادث التاريخ» التى أرى أنه من المهم استدعاؤها والاستدلال بها فى الوصول إلى قراءة «أكثر دقة» لتلك «الحالة» التى تمثلها العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية .. من بين «حوادث التاريخ» هذه التى يجب استدعاؤها «مجموعة الحوارات أو اللقاءات» التى أجراها الكاتب الصحفى الراحل محمد حسنين هيكل مع المسئولين والمؤثرين فى «صناعة القرار الدولى».. أختار من هذه الحوارات أو اللقاءات «اليوم» حوارين أو لقاءين أجراهما محمد حسنين هيكل «منذ عقود» مع اثنين من أبرز الشخصيات التى حملت «الجنسية الأمريكية» هما «العالم» ألبرت آينشتاين «صاحب نظرية النسبية» و«الملياردير» ديفيد روكفلر «الرئيس الأسبق لمجلس إدارة أحد البنوك الأمريكية الكبرى».. ما دار فى هذين الحوارين أو اللقاءين سجله الراحل محمد حسنين هيكل فى كتابه الشهير «زيارة جديدة للتاريخ» .. وما قاله آينشتاين وروكفلر بالإضافة إلى «ما رصده وتوصل إليه الأستاذ هيكل» يكشف بشكل أو بآخر كثيراً من معالم «كلمة السر المثيرة» فى العلاقة «الإسرائيلية الأمريكية».. تلك العلاقة التى كانت وما زالت.. وربما ستظل لسنوات طوال.. هى «المحرك الرئيسي» لأخطر التهديدات التى يمكن أن تغير «معالم» المنطقة أو الإقليم!!.
خلال لقائه مع أشهر علماء القرن العشرين و»شفرة» الوصول إلى القنبلة النووية «ألبرت آينشتاين».. تسلل إلى «الأستاذ هيكل» شعور قوى بأن «يهودية» العالم الشهير طغت على «جنسيته الأمريكية» فقد كان الذى يشغل بال آينشتاين طوال اللقاء ليست قضية علمية أو بحثية أو ثقافية ..كان الشغل الشاغل لآينشتاين والسبب الرئيسي الذى جعله يلتقى «هيكل» هو «أمن إسرائيل» .. وخلال حواره مع «روكفلر» تأكد لدى « الأستاذ هيكل» أن «المصلحة» أينما وجدت هىالتى تحدد «ثوابت» السياسة الخارجية الأمريكية .. إننى أتأمل ما دار فى لقاء الراحل محمد حسنين هيكل بكل من ألبرت آينشتاين وديفيد روكفلر وأمام عينى «صورتان»..الصورة الأولى لوزير الخارجية الأمريكى الحالى «أنتونى بلينكن» وهو فى إسرائيل خلال «أكتوبر الماضى» فى بداية الحرب على غزة وهو يعلن الدعم الكامل لإسرائيل وهو يقول «لم آت إلى إسرائيل اليوم بصفتى وزيرا للخارجية الأمريكية ولكن بصفتى يهودياً وابن يهودى»..أما الصورة الثانية فهى تلك التى «تتكرر» فى كل مرة تجرى فيها الانتخابات الرئاسية الأمريكية حيث يقف البعض «خارج أمريكا» مصدقا أن هناك فارقا كبيرا بين «الديمقراطي»و»الجمهورى» وينسي هؤلاء أن كلا «المرشحين» تجمعهما «غاية مشتركة» وهى ضمان «أمن إسرائيل»!!
فى عام «1952».. بعد شهور قليلة من قيام «ثورة الثالث والعشرين من يوليو» توجه محمد حسنين هيكل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ..وكان سبب الزيارة «وفقا لما ذكره فى كتابه زيارة جديدة للتاريخ» هو «التغطية الصحفية» لأول انتخابات رئاسية أمريكية تجرى بعد «ثورة يوليو»..كذلك متابعة مفاوضات صفقة سلاح أمريكية لمصر.. ثم معرفة ردود الأفعال الدولية عن «الثورة الوليدة»..ويقول «هيكل» فى كتابه إنه على الرغم من أنه لم يخطط لإجراء لقاء مع ألبرت آينشتاين إلا أن القدر هيأ الظروف ليجد نفسه مع آينشتاين فى «حوار فريد»..اللافت والمهم فى لقاء هيكل وآينشتاين..هو أن «أبو النظرية النسبية» كان حريصا على لقاء «هيكل»..فبعد أن أخطرته»السكرتارية الخاصة به «بطلب» الصحفى المصرى» مقابلته وذكرت «السكرتارية» لآينشتاين أن «هيكل» له علاقات صداقة تجمعه مع قادة الثورة المصرية..وافق آينشتاين على الفور من أجل أن يطرح عليه سؤالاً يتعلق بإسرائيل!!
فوجىء «هيكل» خلال اللقاء بآينشتاين يخبره إنه وافق على إجراء الحوار من أجل أن يسأله «سؤالاً» ..وهو أول ما سأل واستفسر عنه آينشتاين «ماذا يريد الضباط الأحرار فعله بأهلى اليهود فى إسرائيل؟!!».. يشير «هيكل» هنا إلى حجم الذهول الذى أصابه من «السؤال» فهو كما يروى لم يكن يتوقع أبدا أن يتحدث «عالم» مثل آينشتاين بهذه «اللغة المتحيزة».. أهلى اليهود.. أنا يهودى.. وغير ذلك من العبارات التى عبر بها «آينشتاين» عن نفسه.. ويقول «هيكل» أن آينشتاين لاحظ وقع مفاجأة السؤال عليه.. فحاول أن يخفف من ذلك فراح يقول «أنا يهودى بالمعنى الإنسانى» وأنه يرى أن الصراع فى فلسطين بين «حقين».. حق لليهود فى إقامة وطن لهم وكذلك حق للفلسطينيين فى ألا يطردهم أحد من وطنهم.. ثم راح يتحدث عن أمور وقضايا أخرى كان أبرزها دوره فى ظهور أول قنبلة نووية على وجه الأرض..لكن عاد مرة أخرى إلى «مربط الفرس» وأخذ يسأل «هيكل» عن علاقته بمحمد نجيب وجمال عبد الناصر والضباط الشباب الذين قاموا بالثورة المصرية «ثورة يوليو».. ثم طرح «آينشتاين» على «هيكل» خلاصة القول أو مركز الهدف والغاية من اللقاء أو الحوار واستكمالا لما بدأ به «آينشتاين»الكلام فى مستهل الحوار عن «أهله اليهود».. لقد قال آينشتاين لهيكل: «هل السلام مطلوب من جانبكم وهل هذا ممكن؟!».. إسرائيل كانت بالفعل فى «بؤرة اهتمام» أشهر عالم خلال القرن العشرين ولم يتقاعس لحظة من أجل عمل كل ما يستطيع «كعالم» من أجل الحفاظ على «أمن إسرائيل» أو أمن اليهود «أهل آينشتاين».. إن خدمة إسرائيل كانت هى السبب الرئيسي الذى جعل آينشتاين يوافق على لقاء هيكل وإجراء حوار معه والذى أراد من خلاله استكشاف مستقبل العلاقات بين إسرائيل وبين «مصر ثورة يوليو».
تحدث محمد حسنين هيكل فى كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»عن واحد من أهم الحوارات التى أجراها ..إنه حواره مع الملياردير الأمريكى «ديفيد روكفلر».. وديفيد روكفلر وصفه «هيكل» بعدة أوصاف «كاشفة»..فقال عنه إنه «أمير» نيويورك.. العاصمة المالية للولايات المتحدة الأمريكية.. وقال عنه إنه «بابا البنوك الأمريكية» نظرا لأنه وأسرته «يسيطرون على» أهم البنوك هناك.. ووصفه أيضا بأنه «رئيس حكومة الظل» التى تشارك مركز السلطة فى واشنطن عملية توجيه وصناعة القرار السياسي وكل ما يتعلق بالأمن القومى الأمريكى.. «ديفيد روكفلر» والذى تحدث «هيكل»فى الكتاب عن أكثر من لقاء جمعه به يعتبر.. وفق ما ورد فى الكتاب .. من أصدقاء «هيكل»القدامى.. صداقة تعود لعقد «الأربعينيات» من القرن الماضى.. وقد أشار «روكفلر» فى حواره إلى العديد من الحقائق المهمة والتى يجب إعادة قراءتها «الآن» ضمن ضرورات «اللحظة» التى تمر بها «المنطقة» ويواجه فيها «الإقليم» مجموعة من أخطر «التحديات».
قبل أن يتطرق الراحل محمد حسنين هيكل فى كتابه إلى تفاصيل حواره مع «روكفلر»..طرح السؤال الأبرز..من يملك قرار السياسة الخارجية والأمن القومى فى الولايات المتحدة الأمريكية؟!.. وأجاب «هيكل» أن هناك نظريتين فى ذلك ..الأولى ترى أن هناك «حكومة خفية» هى التى تمسك بزمام الأمور وتتكون من تحالف المال والأعمال والمخابرات المركزية ووزارة الدفاع.. أما النظرية الثانية فتقول إن الولايات المتحدة مجتمع حر ولا توجد قيود على أى شىء وأى شخص يستطيع أن يصل إلى مايريد.. لكن «هيكل» له وجهة نظر ثالثة قال فيها إن القوة الحقيقية فى أى مجتمع هى للذين يملكون «المصالح الحقيقية فيه».
أما عن القضايا التى أثارها «هيكل» مع «روكفلر» فى حواره..الحقيقة هما حواران أحدهما جرى فى عام 1973 والثانى فى عام 1975.. فقد روى «هيكل» فى كتابه أنه سأل «روكفلر» عن علاقة المال بالسياسة فكانت الإجابة «وجهان لعملة واحدة» .. ثم أطلق «روكفلر» فى ذلك الوقت «منتصف سبعينيات القرن الماضى» حزمة من «الرسائل النارية».. دونها «هيكل» فى كتابه بشكل أشبه «بالعناوين الصحفية».. قال روكفلر موجها حديثه إلى هيكل: أنتم تشغلكم أزمة إقليمية لديكم هى أزمة الشرق الأوسط وأما نحن فالذى يهمنا هو الصراع على «مستقبل العالم».. وقال أيضا: أنتم فى مصر والعالم العربي وفى آسيا وأفريقيا «فى يدكم» دون أن تنتبهوا لذلك «مصير العالم كله»!!.. أضاف: إن مصير العالم كله سوف يتقرر إما لصالح «الرأسمالية» أو «الشيوعية» طبقا لما تختارونه قبل أن ينصرم «القرن العشرين».. هذا القرن سوف يتقرر كل شىء ويحسم.. وواصل روكفلر مخاطبا هيكل: إذا اخترتم جميعا «طريقتنا» فى الحياة فسوف يكون النصر النهائي لنا وإذا اخترتم جميعا طريقة الآخرين «الاتحاد السوفيتى آنذاك» فسوف يكون النصر لهم.. وأنهى وكفلر رسائله النارية قائلا: القنبلة لن تحسم الصراع على المستقبل وإنما الذى سوف يحسمه هو «اختياركم»!!.. ولم تمض سوى سنوات قليلة وإذا بالاتحاد السوفيتى يتفكك لتنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم!!
أستدعى «هنا» ثانية «مشهد» وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن وهو يزور إسرائيل فى بداية حربها على غزة وهو يقول «جئت اليوم بصفتى يهودياً وابن يهودى»لدعم إسرائيل.. أستدعى هذا «المشهد» وأضعه بجانب ما قاله «آينشتاين» فى لقائه مع «هيكل»عن إسرائيل و»أهله اليهود».. ثم أتأمل «المشهدين» وفى «خلفية الصورة» الرسائل النارية التى بعث بها «ديفيد روكفلر» منذ مايقرب من «نصف قرن»..يمكن القول إن الانتماء «اليهودى» لكثير من القوى الفاعلة داخل الولايات المتحدة الأمريكية يجعل هذه القوى تسخر كل طاقاتها لخدمة إسرائيل.. ولعل ما حدث من آلبرت آينشتاين «قديما» ثم «أنتونى بلينكن» حديثا يؤكد أن هذه «الخدمة» متجذرة ومستمرة على كافة المستويات.. «خدمة إسرائيل» مسئولية مشتركة تقع على عاتق جميع «يهود أمريكا».. وهنا يثور تساؤل مهم حول أعداد أولئك الداعمين والفاعلين فى «خدمة إسرائيل» أمثال «بلينكن» و»آينشتاين «.. كم عددهم «الآن» داخل مراكز صنع القرار الأمريكى؟! مع الإشارة إلى أن هؤلاء من بينهم من يكون فى الواجهة «الظاهرة» ومنهم من يتواجد «بعيدا عن الأعين».. ماذا فعل «فريق إسرائيل» داخل الولايات المتحدة من أجل دعم «تل أبيب» فى حرب إبادتها لغزة .. وما الذى يخطط له أعضاء وعناصر هذا الفريق المنتشر فى «مفاصل»أمريكا.. ما الذى يخططون له فى «الفترة المقبلة».. وماهى الكيفية التى ستشارك بها «أموال المصالح» فى تنفيذ ذلك؟!!.. إنها أسئلة مهمة فرضتها «ضروة الحاضر».. تتطلب الإجابة عنها بشكل دقيق.. نظرة متأنية إلى وثائق وثوابت «الماضى».
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.