القتال فى الإسلام لا يباح للمسلمين إلا لرد عدوان على حياتهم أو دينهم أو عرضهم أو أرضهم
أكد الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن المتأمل فى صفات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ يحار فلا يدرى بأيها يبدأ ولا بأيها يختم، ولا ماذا يأخذ من هذا الوابل الصيب من صفات الجمال وصفات الجلال، ولا ماذا يدع.. وكيف لا! وقد وصف الله سعة أخلاقه الشريفة بوصف العظم، فقال فى كتابه الكريم: «وإنك لعلى خلق عظيم»، كما وصفته أخبر الناس به، زوجه السيدة عائشة أم المؤمنين – حين سئلت عن أخلاقه، فقالت: «كان خلقه القرآن»، مبينا أنها – رضوان الله عليها – قد أدركت الأفق المتعالى لهذا الخلق النبوي، وصعوبة بيانه للناس: عداً وحصراً واستقصاء، فأحالت البيان إلى أخلاق القرآن الكريم، وما بينها وبين أخلاقه – صلوات الله وسلامه عليه – من تطابق وتماثل، وبما يعنى أن الخلق القرآنى إذا لم تكن له نهاية فى حسنه وكماله، فكذلك «الخلق المحمدي» لا نهاية لحسنه وكمالاته، ولا حدود لسعته واستيعابه العالمين بأسرهم.
أوضح شيخ الأزهر خلال كلمته التى ألقاها بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف أن المطابقة بين أخلاق القرآن الكريم وأخلاقه صلى الله عليه وسلم هى السر فى اختصاص نبى الإسلام برسالة تختلف عن الرسالات السابقة، حيث جاءت رسالة خاتمة للرسالات الإلهية، ورسالة عامة تتسع للعالمين جميعا: إنساً وجناً، وزماناً ومكاناً؛ بينما جاءت الرسالات السابقة رسالات محدودة بأقوام بعينهم وفى زمان معين ومكان محدد لا تتجاوزه لمكان آخر.
أشار الإمام الأكبر إلى أن أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وإن تنوعت عدداً ومنزلة وعلو درجة وكمال شأن، حتى وصف بالإنسان الكامل – فإن صفة من صفاته هذه قد انفردت بالذكر فى القرآن الكريم، وهي: صفة «الرحمة» التى وصف بها صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى فى آواخر سورة التوبة، فى معرض الامتنان الإلهى على المؤمنين، حيث بعث فيهم رسولا منهم، وصفه بأنه حريص على هدايتهم، وأنه «رءوف رحيم» بهم، ثم ذكرت صفة «الرحمة» مرة ثانية فى قوله تعالى فى آواخر سورة الأنبياء: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، وجاءت بأسلوب القصر الذى يدل على أن هذا الرسول اتحد ذاتا وأفعالا بصفة: «الرحمة» حتى صارت سجية راسخة متمكنة فى مشاعره، ومتغلغلة فى أطوائه، ومسيطرة على تصرفاته.
تابع شيخ الأزهر أن أول ما يطالعنا من تجليات الرحمة النبوية فى مواطن الحروب والاقتتال أن القتال فى شريعة الإسلام لا يباح للمسلمين إلا إذا كان لرد عدوان على حياتهم أو دينهم أو أرضهم أو عرضهم أو مالهم، أو غير ذلك مما يدخل تحت معني: «العدوان» بمفهومه الواسع، أما القتال نفسه، أو حرب العدو، أو: الصراع المسلح، فله فى شريعة الإسلام خطر وأى خطر، وله قواعد وضوابط وتشريعات شرعها الله تعالي!، وطبقها رسوله صلى الله عليه وسلم تطبيقاً عملياً وهو يقود بنفسه جيوش المسلمين فى معاركهم مع أعدائهم، وأمر أمته بالتقيد بها كلما اضطرتهم ظروفهم وألجأتهم إلى مواجهة عدوهم.
تابع الإمام الأكبر أن أول ما يلفت النظر من قواعد الاقتتال لرد العدوان فى الشريعة الإسلامية: قاعدة «العدل»، وهى قاعدة كلية بعيدة الغور فى شريعة الإسلام، أمر الله بالالتزام بها فى معاملة الصديق والعدو على السواء، ثم إن قاعدة العدل هذه تستدعى قاعدة ثانية تلازمها ولا تفارقها فى أى تطبيق، وهى قاعدة: «المعاملة بالمثل» والتى تعنى أول ما تعنى حرمة تجاوز حدود العدل إلى حدود الظلم والعدوان على الغير، يتبين ذلك من قوله تعالي: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»، ومن قواعد الإسلام العامة فى القتال التزام مبدأ «الفضيلة» ومبدأ «الإحسان» الذى كتبه الله على كل شيء سواء تعلق هذا الشيء بالإنسان أو بالحيوان، وقد ترجم أمراء المسلمين وقادة جيوشهم، مبدأ «الفضيلة» هذا إلى لوحة شرف فى قوانين الحروب، لا يعرف التاريخ لها نظيرا فى غير معارك المسلمين، وها هو الخليفة الأول، أبوبكر «رضى الله عنه» يودع قائد جيشه إلى الشام ويقول له: «أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجبنوا، ولا تهدموا بيعة – أي: كنيسة أو معبداً..».
أضاف شيخ الأزهر أن صورة القتال فى الإسلام لا تكتمل بدون الإلمام بصورة «الأسري» فى الحروب الإسلامية، لافتا إلى أن فقه «الأسير» فى الإسلام يدور على أمرين لا ثالث لهما، حددهما القرآن الكريم فى قوله تعالي: «فإما مناً بعد وإما فداء»، والمن على الأسير هو إطلاق سراحه وتحريره بغير عوض ولا فدية، أما فداؤه فهو تحريره وإطلاق سراحه مقابل فدية يدفعها هو أو تدفع له، مبينا أن الأسير الذى يأسره المسلمون من جيش العدو يحرم على المسلمين قتله، كما تدل الأحكام الفقهية على وجوب إطعام الأسير، ووجوب الإحسان فى معاملته، وحمايته من الحر والبرد، وتوفير ما يكفيه من كسوة وملابس، وإزالة كل ما يصيبهم من ضرر، ووجوب «احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية حسب مكانة كل فرد منهم»، مستلهمين فى ذلك إلى دعوته صلى الله عليه وسلم للرفق بالناس فى قوله: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف»، وقوله: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم».
شدد شيخ الأزهر أنه لا يمكن عقد مقارنة أو مناظرة بين الحرب فى شريعة الإسلام ونموذجها الإنسانى الرفيع، وبين الصورة البشعة للحرب الحديثة فى القرن الواحد والعشرين، والتى آل أمرها إلى إبادات جماعية ومجازر همجية وجرائم منكرة، ترتكب ضد شعوب مضطهدة تخلى عالمنا القوى المتحضر عن نصرتها، والوقوف إلى جوارها، وصمت صمت القبور عن آلامها وصرخاتها، ثم راح يشمر عن ساعد الجد ليتصدق على هذه الشعوب البائسة بكلمات عزاء فارغة لا تقول شيئا، أو بمشاعر باردة تذكر بمشاعر القاتل الذى يمشى فى جنازة قتيله ويتقبل عزاء الناس فيه، فالمقارنة فى هذا المقام مضللة ومزيفة لكل نتيجة تنتجها مقدماتها».
اختتم شيخ الأزهر كلمته قائلا: «حسبنا أن نعلم من جديد أنه لا يصح فى حكم العقل أن نقارن بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبح، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين قانون الغاب والأحراش، والدرس الذى يجب أن نذكر به مع تجدد ذكرى المولد النبوى هو تجديد وعى هذه الأمة بذاتها وتاريخها العريق المشرف، وقدراتها المادية والروحية، وطاقاتها الخلاقة، وأن تكون على يقين من أنها تملك دواءها إن أرادت، وأن تكون على ذكر دائم من قوله صلى الله عليه وسلم فى شأن أمته: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها..»، وأن تبذل قصارى الجهد للتضامن مع أطفال غزة ونسائها وشبابها وشيوخها، ومع شعوبنا فى السودان واليمن وغيرها، وأن نعلم أن ذلك ليس منة يمن بها على هذه الشعوب المعذبة فى الأرض، وإنما هو واجب القرابة فى الدين، وصلة الدم والرحم والمصير المشترك».