تنطلق مواقف أى رئيس أمريكى من نظرته إلى النظام العالمي، ولدور واشنطن فيه، وللمصالح القومية الأمريكية الحيوية التى ينبغى حمايتها والدفاع عنها، أما عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية فتقوم على المؤسسات، وليس الأفراد والسياسات الأمريكية تجاه قضايا منطقتنا « الشرق الأوسط» على سبيل المثال ثابتة ولا تتغير بتغير الرئيس.. هذه قاعدة ينبغى أن نضعها فى الحسبان و نحن نتحدث عن الساكن الجديد المرتقب للبيت الأبيض بعد أسابيع قليلة.
صحيح أن انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة شهدت عدداً من الأحداث المهمة، تمثلت فى انقسام الحزب الديمقراطي، وانسحاب جو بايدن لصالح كامالا هاريس، وتعرض المرشح الجمهورى والرئيس السابق، دونالد ترامب، لمحاولة اغتيال خلال مجمع انتخابى فى بتلر بولاية بنسلفانيا؛ لكن كل هذا لا يعنى أن سياسة الرئيس القادم أيا كان اسمه و حزبه ستتغير مثلا تجاه قضايا منطقتنا.
صحيح هناك بعض التأثير لقضايا الشرق الأوسط على الانتخابات الأمريكية.. ففى ولاية ميشيغان، التى تُعد إحدى الولايات المتأرجحة فى الانتخابات الأمريكية، صوت أكثر من 100 ألف ناخب ديمقراطى بأنه غير ملتزم بالتصويت لجو بايدن قبل أن يتنحى عن السباق الرئاسي، وذلك على خلفية سياساته الداعمة لإسرائيل فى حربها على غزة، لكن حتى هذا التأثير يظل ثانويا ، فقضايا الشرق الأوسط لا تمثل أولوية بالنسبة للناخب الأمريكي، حيث تتصدر القضايا الاقتصادية. والمعيشية، والضرائب والوظائف والدخول ، وتأتى السياسة الخارجية فى ذيل قائمة أولويات الناخب لمرشحه فى انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، ولا شك أن هذا مرتبط أيضا بضعف تأثير السياسات الأمريكية على السياسة الدولية بشكل عام فى الفترة الأخيرة ، فقد ساهمت سياسات الرئيس الأمريكى بايدن والغرب فى إشعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بسبب سياسات تراها روسيا استفزازية.
السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط تحكمها العديد من الثوابت، والمحددات، والمصالح، بغض النظر عن طبيعة الإدارة ما إذا كانت جمهورية أو ديمقراطية، ولن تتغير بتغير الرئيس، لكن هذا لا يمنع من أن أسلوب وشخصية الرئيس الأمريكى قد يكون لها تأثير فى التعامل مع الملفات الحاسمة المطروحة على مستوى المنطقة لكنه يبقى تأثير محدود.
من ثم فعلينا أن لا نعول كثيرا على نتائج الانتخابات الأمريكية فى مواجهة أزمة الشرق الأوسط الكبيرة و أتحدث هنا عن الحرب فى غزة حيث لا يوجد أفق لإنهائها، فى ظل دعم واضح من الجمهوريين والديمقراطيين لإسرائيل وعجز المنظمات الدولية والدول الكبري، والنظام العالمى الحالى عن تمرير قرار لمجلس الأمن يوقف هذه الحرب من قبيل اضطلاع المجلس بدوره فى حفظ السلم و الأمن الدوليين والسبب فى كل مرة هو «الفيتو الأمريكي» المناصر لإسرائيل ولقد تسبب السلوك الأمريكى فى المنظمة الدولية طوال عقود فى تصاعد أزمة النظام الدولي، الذى بات يعجز عن مواجهة الأزمات والصراعات فى العالم من دون أفق، حيث يتواصل العدوان الإسرائيلى على غزة، فى حرب إبادة تعجز المنظمات الدولية عن وقفها، أو مواجهة العدوان، وتقف الولايات المتحدة مع العدوان، وتمد إسرائيل بالسلاح الذى تقتل به الآلاف فى غزة، فلو تأملنا التصريحات الانتخابية للمرشحين دونالد ترامب وكامالا هاريس سنجد أن لإسرائيل الأولوية فى كل شيء فى حين يفقد النظام العالمى ما تبقى من إنسانيته.
ما أريد قوله فى الخلاصة: علينا أن لا نشغل بالنا باستطلاعات الرأى والمناظرات بين كامالا هاريس ودونالد ترامب، وما يعقبها من حديث فى الإعلام قد يترتب عليه آمال و طموحات وهمية، العالم الآن يواجه معضلة كبري، أكبر بكثير من الانتخابات الأمريكية، تتطلب وقفة عالمية للمطالبة بإصلاح النظام العالمي، و آلية اتخاذ القرارات فى المنظمات الدولية وهو ما يتطلب تشكيل نظام عالمى جديد يتناسب مع التحولات الاقتصادية والسياسية الجديدة فى العالم الذى اختلف كثيرا عن عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق عام 1991، قواعد اللعبة تغيرت.