لا يمكن ان تمر ذكرى مولد خاتم المرسلين وإمام الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم دون ان نتوقف عندها طويلاً نتأمل فى معانيها ودلالاتها ودروسها لنستلهم منها ما يعيننا على الاستمرار فى هذه الحياة.. فما أحوج المسلمين بل البشرية كلها لتفعيل ميثاق النبوة والاقتداء بسيرته العطرة وتطبيق سنته المطهرة لحل مشاكلنا وعبور تحدياتنا وتطهير أنفسنا من الداخل.. كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن.. وما ينطق عن الهوي.. وكان قرآناً يمشى على الأرض، ما أحوج العالم اليوم إلى سماحة وتسامح بنى الإسلام وعفوه عند المقدرة.. وجنوحه للسلام والأمان والاستقرار.. وبغضه للحرب ونهيه عن الصراعات وسفك الدماء.. ما أحوجنا إلى خلقه الرفيع.. حبه لأهل بيته.. ووفائه لأصحابه.. حنانه على الصغير والكبير.. رحمته بالأعداء قبل الأصدقاء.. ظل ثلاثة عشر عاماً فى مكة يدعو أهله وعشيرته إلى التوحيد.. رفضوا دعوته.. آذوه.. حاصروه.. منعوا عنه الطعام والشراب.. قاطعوه وعذبوا أصحابه والذين اتبعوه… فلما كتب الله له الهجرة إلى يثرب.. آخى بين المهاجرين والأنصار.. وصالح اليهود.. وأسس لمجتمع حضارى إنسانى جديد يقوم على التعاون والسلام والتصالح مع النفس وقبول الآخر..
وفى المدينة أرسى رسول «الإنسانية» دعائم أكبر وأعظم دولة عرفها التاريخ حكمت نصف الأرض تقريباً بالحكمة والموعظة الحسنة.. فلما قويت الدولة الإسلامية واشتد عودها وصار لها جيش جرار صلب قوى متكامل.. فتحوا مكة دون إراقة دماء إلا حفنة من الأشرار هاجموا المسلمين واسقطوا فى صفوفهم قتلى وجرحى فلم يجد قائد المسلمين خالد بن الوليد إلا ان يدافع عن نفسه وبادلهم القتال حتى دانت لهم مكة ودخل المسلمون بقيادة محمد بن عبدالله أم القرى رافعين رايات السلام والمحبة والمودة.. عندئذ وقف كفار قريش وهم فى ذهول وريبة من أنفسهم ينتظرون الموت المحقق على يد الرجل الذى آذوه وضربوه وحاصروه وقاتلوه حتى هرب من جحيم الكفر إلى واحة الايمان فى يثرب.. ماذا فعل بهم الرسول.. قال لهم: ماذا تظنون إنى فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن اخ كريم.. قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء.. وأصدر نبى الرحمة إعلانات العفو المتتالية عن صناديد قريش وأكثرهم عداوة له شخصياً مثل هند بنت عتبة التى أكلت كبد أسد الإسلام عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.. ووحشى قاتل «حمزة» وعكرمة وصفوان بن أمية وغيرهما من الذين هاجموا جيش المسلمين عند دخوله مكة رافعاً الرايات البيضاء.. حكمة النبى ورحمته وعفوه وسماحته قادت الجميع للدخول طواعية فى الإسلام حتى باتت مكة كلها مسلمة.. بل الجزيرة العربية برمتها فى حياة النبى ومن بعده فى عهد الخلفاء الراشدين المهديين الذين ساروا على نهجه وطبقوا سنته وفعلوا ميثاقه النبوى العظيم.. عاش الرسول الكريم ما يزيد على ستين عاماً بقليل وسط أهله وأصحابه هادياً ومعلماً ونذيراً ومرشداً.. لم يكن مجرد نبى نزلت عليه رسالة السماء.. ولا مجرد رسول أمره الله بتبليغ دعوته.. ولكنه كان كل شيء بالنسبة للمسلمين.
كان الأب الرحيم.. والمعلم العظيم.. والهادى الرشيد.. والأخ الحنون.. والصديق الوفي.. والرفيق الناصح الأمين.. آمن المسلمون بأنه هدية السماء لأهل الأرض ولذلك عندما جاء الأجل وحانت الساعة وآن للسماء ان تسترد وديعتها.. رفض أهل الأرض واعترضوا واحتجوا بشدة.. ليس كفراً بقدرة الله وإرادته ومشيئته.. ولكن حباً وهياماً وعشقاً أبدياً لرجل عاش بينهم فغير حياتهم وانتقل بهم وبالدنيا كلها من ظلمات الكفر والجهل والشرك والفسق والفجور.. إلى نور الايمان والعلم والتوحيد والبر والاحسان والخير الوفير.. وخرج الفاروق عمر يشهر سيفه وبصوته الجهورى يهدد بقتل كل من يتجرأ ويزعم بأن محمداً قد مات.. حتى رد عليه الصديق بقول الله عز وجل:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين).. وهنا خر عمر ومعه آلاف المسلمين الذين لم يصدقوا وفاة الرسول وآمنوا بأنه بشر مثلهم يوحى إليه.. ولما جاء أجله لحق بربه.
ولكن ماذا بعد؟ وكيف يعيش المسلمون بدون المثل والقدوة.. كيف تسير بهم الحياة بدون قائد ومعلم.. كيف يسيرون دقائق وتفاصيل حياتهم اليومية بدون «الملاك الملهم» الذى جاء به الله ليعلمهم تعاليم دينهم ويضيء دنياهم.. هب المسلمون إلى اجتماع السقيفة وانتخبوا الصديق خليفة لرسول الله ودارت بهم الحياة دورتها من جديد.. وخلال خلافة أبو بكر.. ثم عمر.. أدرك المسلمون أن الرسول لم يمت.. بل هو حى خالد بينهم.. فهو القائل قبل رحيله «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدًا.. كتاب الله وسنتي»..
تمسك الصديق ومن بعده الفاروق بمناهج النبى الكريم وجعلوه ميثاق حكمهم وإدارتهم لشئون الدولة، لدرجة أن أبو بكر ذلك الإنسان الهادئ الضعيف اللين تحول إلى وحش كاسر فى وجه المرتدين الذين رفضوا آداء الزكاة وقال قولته المأثورة «والله لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه».
ثم انقلب الخليفة عمر بن الخطاب القوى العنيف الشرس إلى إنسان لين ضعيف يحن على الفقير ويحمل على ظهره طعام الأرامل والأيتام فلما طلب منه خادمه مساعدته نهره وقال: أوتحمل عنى أوزارى يوم القيامة؟ وبكتاب الله وسنة رسوله فتح الله على المسلمين الأرض شرقًا وغربًا.. وزالت امبراطوريات الروم والفرس ودخلت العراق والشام وتخومها وتوابعها فى روضة الإسلام.. روضة محمد النبى الأمى الذى علم الإنسانية كلها كيف تكون الإنسانية.. وكيف تعيش البشرية فى رحمة ومودة وسلام وتعاون وتكامل وتعايش بعيدًا عن الحروب والنزاعات وصراعات القوة الغاشمة وأطماع الاحتلال والاستعمار والاستيطان.
وفى ذكراك العطرة.. نصلى ونسلم عليك يا نبى الرحمة..
يا من بعثك الله رحمة للعالمين.. نتوق دائمًا لزيارة روضتك الشريفة.. حتى يرزقنا الله شفاعتك المنقذة فى يوم اللقاء الأعظم.