نكتب عنا دائما ولا نكتب عنهم.. نظهر في الكادر دائما كأصحاب الياقات البيضاء، ويتوارى دائما أصحاب «العفريتة» أو البدل الزرقاء.
هم ملح الأرض، وبدونهم لا تظهر صاحبة الجلالة في أبهى زينتهم.. تفوق منا رائحة أغلى العطور، ومنهم تفوح الرائحة المقدسة.. أقصد رائحة «عرق الشغيلة».. باختصار نحصد نحن الشهرة والأضواء والأموال أحيانا… وهم راضون عن موقعهم في الظل وخلف الكاميرا وخارج الكادر.. هم عمال المطابع الصحفية وعمال كافة الأقسام الفنية في المؤسسات الصحفية.. كتبت هن هذه الشخصية واجد لزاماً اعادة النشر حتى تعرف الاجيال الجديدة معنى الوطن وقيمة العمل.
هو مثلا.. يتعبد في محرابها منذ 62 عاما.. يتوضأ بالأحبار.. ويصلي لله شكرا كلما صدر عدد جديد.ولرائحة الأحبار عنده عبير يفوق المسك والعنبر، لأنه لا يعرف غيرها، ولا علاقة له بالعطور والبارفانات الباريسية.. شيد معبده فى بلاط صاحبة الجلالة عام 1949 بعد قدومه من إحدى قرى بركة السبع في محافظة المنوفية التي ولد فيها يوم 13 مارس 1930، خرج على المعاش مازال يطوف بجسده وروحه بمحراب صاحبة الجلالة صباحا وظهرا ومساء.
هو واحد من البنائين الأوائل لجريدة الجمهورية ومن قبلها الجازيت والبروجريه والميل وسفنكس.. هو عم محمد طه محمد الشهير بـ»عم طه» أو «طاخا» كما كان يناديه الخواجة «جوخ» المدير الألماني لشركة الإعلانات الشرقية التى كانت مملوكة للإنجليز ممثلة فى السيدة «فينى» قبل أن تنقل أسهم ملكيتها إلى أحمد أبو الفتح وقوت القلوب الدمرداشية ثم تؤمم بعد قيام ثورة يوليو.
عم «طاخا» جاء يحمل في داخله وتحت إبطه 62 عاما من الذكريات بين جدران الجمهورية.. يعود بالذاكرة إلى يوم 7 أبريل 1949 فى أول يوم يدخل إلى المحراب وعمره 19 عاما ليرى ويتعامل لأول مرة مع الخواجات «الإنجليز والألمان والطلاينة والمالطيين والهنادوة والفرنسيين واليهود».
لكن كله كوم والخواجة «جوخ» كوم آخر، حين يدخل الدار يدق الجرس فى كل أنحاء الدار والجدع يبقى يظهر خارج مكتبه أو بعيدا عن ماكينته.. كل المكاتب والأقسام تتحول إلى خلايا نحل، والفصل والطرد والخصم هى العقوبة حسب الخطأ الذى يصل عند جوخ إلى حد الجريمة، لم نكن نشاهد عمال أو موظفين فى كافتريات أو يتسكعون حول مبنى الجريدة أو يشربون السجائر فى المكاتب أو الطرقات!!.. ومع ذلك ستطرد عم طاخا:
إلى جانب دفتر العقوبات كان الثواب إلى أقصى مدى !!
إزاى ياعم «طاخا»؟.. أسأله، يبتسم قائلا: دخلت على الخواجة «جوخ» ذات صباح وكان يعرف مدى التزامي وقلت له:
الفلوس مش مكفية وأنا عايز فلوس علشان الاسكولا!!
قالى: انت عايز تروح الاسكولا.. قلت: أنا فى الاسكولا الابتدائى ونفسى أكمل لحد م ادخل الجامعة.. فوجئت به يوافق ويرفع مرتبى واستكملت تعليمى
قلت له: دخلت الجامعة؟!.. بتسم اتجوزتواللى يتجوز «الجواز كفاية عليه»، بس وصلت لثانوى.. وكان سبب إصراري على التعليم إن مسيو «جوخ» والكلام لعم طه وقف جنبي ذات مرة وأنا باشتغل وقالي: برافو «اجدئن شوية» علشان تبقى زى.
نظرت له باستغراب، ابتسم قائلا :على فكرة انا اشتغلت صبي ومسحت الأرض وغسلت الجزالات والماكينة من الحبر وكانت هدومى دايما مبلولة ومشحمة.
ياه!!.. يقولها عم طه ويضيف :أتعلمت من الرجل ده حاجات كتيرةزى النظام الصارم والانتباه والمتابعة، ومن حرصى الشديد على العمل والتقاط أى خطأ لإصلاحه فورا أطلقوا على اسم: «الملقاط أو اللقاط».
هو من عشاق الجمهورية.. كان يعود إليها بعد دقائق بعد أن يوقع فى كشف الانصراف لأنه لا يحب أن يترك الحبيبة تعانى من الوحدة.
وأول مرتب حصل عليه عم طه كان 3 جنيهات عام 1949 وكان يقبضها على دفعتين كل 15 يوما من الخواجة اليهودى «جباى» مدير الخزنة وتنقل فى العمل من وحدة المونوتيب «الجمع الآلى» ثم الجمع الفيلمى ثم مراقب الطبع فى الجمهورية والمساء ومسئول الإطفاء والدفاع المدنى، وللإطفاء والدفاع المدنى قصة طريفة.
فلم تقف قصر القامة أمامه لتكون حائلا أمام طموحه ووطنيته.. لم يقف اهتمامه عند التعبد فى محراب صاحبة الجلالة بل خرج للتعبد فى محراب الوطن مثل ملايين المصريين حين يناديهم نداء الوطن.. فلم تقف قصر القامة أمامه لتكون حائلا أمام طموحه ووطنيته.
وسنة النكسة عام 1967 يتذكرها دائما، ولكن يكون لها مذاق اخر حين تسأله انت اتجوزت امتى ياعم طه؟
يضحك بصوت عال قائلا: فى سنة النكسة!!
وعم طه تزوج من بنت خالته وأنجب منها 3 بنات وولد كان يعمل فى جريدة مايو.. وحين يتحدث عن بعض الماكينات ينط من عينيه بريق العشق والهيام.. الحب الأول: ماكينة «المونتيب» تشعر وهو يتحدث عنها انه يتناجى مع الحبيبة.
أصر على التعلم عليها حين كان الأمر مقصورا على الخواجات وبدأ بالجمع اليدوى حتى وصل إليها.. يتحدث عنها بعشق، فإذا كانت لغة العشق مكونة من كلمات الغرام، فلغة المونتيب مكونة من 360 حرفا يستطيع بها بث كل رسائل الغرام أقصد صفحات الكتب والجرائد، وعينه لا تفارق كل حرف من كل كلمة أثناء رحلته.. يثقب فى المونتيب ثم يذهب إلى ماكينة السبك حتى يدخل مرحلة جديدة من عمليات الطباعة.
الحب الثانى: والحبيبة الأثيرة عند عم طه ايضاهى ماكينة «السوبر كاستر» التى كانت بمثابة مسبك كامل تخرج منه جميع أنواع الحروف وأدوات الطباعة المختلفة، وعلى فكرة كانت الأهرام تشترى منا كل أدوات الطبع والرقائق والأبناط.. و»النداهة» الساكنة داخل الكثير من مريدى الجمهورية منعته من السفر إلى العديد من الدول العربية رغم إغراءات الريالات والدينارات التى وصلت الى 2000 ريال قطرى عام 1970 ورفض السفر مثل الكثيرين.
والأشخاص الذين شكلوا فى ذاكرة عم طه أرقاما ومنعطفات وأحداثا ومحطات كثر.
محسن عبد الخالق أرسلته قيادة الثورة ليرأس شركة الإعلانات الشرقية، ووقف موقفا مضادا منا حين طالبنا بزيادة فى مرتباتنا من خلال علاوة سنوية قدرها 15 جنيها وكان يتزعمنا الأسطى سيد إبراهيم رئيس النقابة الذى أقام دعوى قضائية وهدده الصاغ عبد الخالق بالضرب بالرصاص إذا لم يتنازل عن القضية ، وبالفعل تنازل كل من أقام القضايا إلا الأسطى سيد حتى سافر للكويت.
وأنور السادات عند عم طه رجل نزيه «شويه».. قالها عم طه بحسرة.. قلت: ازاى؟
قال: كنا نقبض من انجلترا أيام كنا تابعين للشركة الإنجليزية وكانت الملكة البريطانية تتربع على ظهرالعملة التى نقبضها كل شهر، ثم أصبحنا نقبض من مجلس قيادة الثورة حتى جاء السادات وطلب منا أن نحاول زيادة موارد الشركة حتى نعتمد على أنفسنا.
وأذكر أن الصحفيين طالبوا بعمل لائحة مالية لهم طلب السادات لائحة للعمال ولم ينجح مسعاه ونجح عبد المنعم الصاوى وطبق اللائحة التى رفعت مرتبى من 36 جنيها إلى 90 جنيها ….وعم طه تعرض للتهديد بالفصل حين تدخل بالنصيحة حين كان يراجع أحد كتب الكاتب حلمى مراد مثل ليلة الدخلة والإتيكيت والحنة وكنت أعمل بروفة على «الرصاص» ووجدته يقسم الصفحات وفوجئت ببداية فقرة فى الصفحة السابقة ورفضت وكتبت بالقلم: لا يصلح هذا التقسيم.
وفوجئت بحلمى مراد والمسئولون يطلبون منا جميعا كتابة بعض الفقرات حتى يكشفوا المتجرأ؟، واضطررت إلى الكتابة بخط منعكش حتى لا يتم اكتشافى، ونجوت بأعجوبة من الخصم أو الفصل.
كثيرون مثل عم طاخا فى الجمهورية منهم من رحل ومنهم من يقف شامخا كالنخل لا ينحنى ابدا ويموت واقفا