لا شيء فى هذا الكون كله أعلى قيمة من الإنسان، وبقدر ما ترتقى قِيمُ الإنسان وأخلاقه وعقله ووعيه، بقدر ما توصف هذه الدنيا بالتَحضر والتقدم والرقي، ولا يوجد مبدأ ولا فلسفة ولا فكر إنسانى أرضى أراد أن يرتقى بالنوع الإنسانى بمعزل عن وحى السماء، إلا وارتقى به فى جانب وأغفل فيه جوانب، والوحى وحده والرسالات السماوية وحدها هى التى ارتقت بالإنسان صورة ومادة، عقلا وروحا، جسدا ونفسا، ولم تكتف الرسالات السماوية بأن تصلح من حال الإنسان وتُرَقِّيِه أخلاقيا بل ارتقت به اجتماعيا وجعلته صالحا فى نفسه مصلحا لغيره قائما بنشر الخير بين الناس، مقتفيا سبيل الرسل والأنبياء، قائما بالإصلاح وبالدعوة إلى الله تعالى شريطة أن يكون على عِلْمٍ وبصيرة (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة).
فإذا قلنا إن رأس المال الحقيقى والقيمة الحقيقة للوجود الإنسانى هو الأديان الإلهية، وإذا قلنا إن كل قيمة مادية مجردة عن الأخلاق والقيم وهَمٌ زائف، وإذا قلنا إن كل حضارة وثقافة تقوم على معاداة الأديان والاصطدام بها حضارة بائدة مهما ظهرت وعَلَتْ، لا نكون مبالغين أو مباعدين، فرأس مال الإنسانية هو الإنسان ورأس مال الإنسان الحقيقى هو ما يتلقاه من قِيَّم الوحى الإلهى الشريف عن طريق ما تلقاه من رسل وأنبياء الله تعالى وخاتمهم هو سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ومن ثمَ فإن تنمية الإنسان بنشر خطاب دينى وسطى متوازن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويُعزز من قيمة التعايش السلمى وينأى بالإنسان عن الأفكار المتطرفة والإرهابية هو أكبر وأعظم استثمار فى رأس المال الديني، فكما تتعرض الأموال النقدية إلى التزوير والغش، تتعرض الأديان كذلك إلى الغش والتزوير، بواسطة تجار الدين ومن اتخذوه وسيلة لتحصيل أعراض الدنيا ومتاعها الزائف، فقاموا بعمليات الغش والتزوير بواسطة جماعات العنف والإرهاب الفكري، فأخرجوا لنا نماذج دينية تدعو إلى الكراهية ونبذ الآخر والقتل والتفجير وإحداث الفتن والقلاقل وهدم المجتمعات الآمنة وإشاعة الرعب والاضطراب فيها، فضلا عن ترويع الآمنين وإخراجهم من ديارهم بغير حق، كل هذه الآثار الوخيمة نتجت عن تبنى خطاب دينى منحرف عن مقاصد الأديان فى حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال.
من هنا نعلم أن دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لتنمية الإنسان المصرى هى وجه آخر لدعوته تجديد الخطاب الدينى ودعوة المؤسسات الدينية إلى القيام بواجب الوقت وتصحيح المفاهيم، ومحاربة كل فكر يتبنى التطرف ظاهرا أو باطنا، لأنه لا فائدة من تشييد المدن وتحديث أوجه الحياة ماديا، والإنسان نفسه يحمل فكرا متطرفا هداما.
إن الاستثمار فى رأس المال الدينى بتعزيز عمل المؤسسات الدينية والعمل بجدية بعيدا عن الشعارات الرنانة على تجديد الخطاب الدينى ونشر ثقافة التسامح والوسطية بين الناس، ورصد ومتابعة وتحليل ومواجهة ما يُنتجه الفكر المتطرف والمتفلت من رؤى وأفكار هو أعظم ما يحافظ على كل مشاريع التنمية الإنسانية التى يدعو إليها الرئيس السيسي.
ولا شك أن الفتوى أقرب ما يتلقاه المواطن الذى لا تخصص له ولا علم عنده، فكثير من الناس تقتصر علاقتهم بالدين على سؤال أهل العلم، وتَلَّقِى الفتاوى منهم كما قال الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقد تُسبب الفتوى الخاطئة فى القتل وإزهاق الأرواح عمدا أو خطأ كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (قتلوه قتلهم الله)، قال النبى ذلك فيمن أفتى الناس بغير علم، وقد تطورت الفتوى الآن وأصبحت صناعة كبيرة تسهم فى تنمية الإنسان وبناء وعيه، وقامت دار الإفتاء المصرية عبر السنوات الماضية بإحداث وعَيٍ جديد فى مفهوم الفتوى وتحويلها من مجرد سؤال من مستفت وجواب من مُفْتٍ فى الأمور الخاصة كالطهارة والأحوال الشخصية، إلى الارتقاء بها لتشمل كل مناحى الحياة ونشاطاتها، وأسهمت دار الإفتاء المصرية عن طريق تحديث مفهوم الفتوى ومأسستها فى محاربة الفكر المتطرف ومحاصرة الإرهاب والأفكار التكفيرية، وهو ما نستطيع أن نطلق عليه الفكر التنموى للفتوي، كما استحدثت دار الإفتاء المصرية مفهوما آخر وهو الفكر الاستباقى للفتوى بمعنى أن نتواصل وأن نصل إلى الناس والشباب دون الانتظار أن يأتوا هم إلينا، فكثير من الناس لا يدرك أنه يحتاج إلى تصحيح المفاهيم، إن التقارب الذى يصل إلى حد التطابق بين تجديد الخطاب الدينى وبين دعوة الرئيس إلى تنمية الإنسان، يُلْقى على المؤسسات الدينية بكافة تخصصاتها مسؤولية الاضطلاع برسالتها فى بناء وتنمية الإنسان ونشر مفهوم العمران الحقيقي، الذى أَسَّسَ له العلامة ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة التى ربط فيها بين العمران وبين التطور، وبين الفكر الصحيح المستقيم، وبَيَّن لنا كيف تقوم الحضارات وكيف تباد، إن الأديان عموما والدين الإسلامى بوجه خاص يدعو إلى إصلاح الإنسان وترقيته حتى يَحْدُث العمران الحقيقي، فلنقف جميعا صفا واحد لتنمية الإنسان المصرى عقلا وقلبا وروحا وجسدا ووعيا وفكرا ثم لنطمئن على ما شيدناه من بنيان وعمران فما كان بالله دام واتصل.