هل سألت نفسك يومًا: لماذا ساءت علاقتى بجيرانى أو زملائى فى العمل أو صديقى أو حتى أحد أفراد أسرتي؟!..
لا شك أن الحياة مليئة بالصعوبات والمآسى بما يكفي، ولا تحتمل أن نزيدها صعوبةً بالتنازع والقطيعة واختلاق الأزمات وإيلام الغير.. كما يفعل البعض، وخصوصًا المشاهير، بالتشهير بالآخرين على مواقع التواصل الاجتماعى والإمعان فى الخصومة ونشر الفضائح، وجعلها ساحة لانتهاك الحرمات والنميمة والغيبة والشحن والشائعات والتضليل؟!..
هل تراجع نفسك دائمًا بضمير حي، فإذا تبين لك أنك أخطأت؛ هل تبادر بالاعتذار لمن أخطأت فى حقه، أم تأخذك العزة بالإثم، فتأبى وتصر على غيك حتى لا تتهم بالضعف والمذلة..وفى المقابل إذا تأكد لك أنك على صواب هل تقبل اعتذار من أخطأ فى حقك إذا فعل، وإذا لم يفعل هل تتحامل عليه وتقسو فى ردة فعلك نحوه، دون أن تلتمس له عذراً؟!..
للأسف يغيب عنا حقائق لا يصح أن تنسي؛ فقد أخطأ من هو أفضل منا، واعتذر من هو أفضل منا، وتقبل الاعتذار من هو أفضل منا..وهنا واقعة الصحابى الجليل أبى ذر الغفارى الذى قال لبلال الحبشي: حتى أنت با ابن السوداء تخطتني؟!.. فقام بلال مدهوشاً غضبان وقال: والله لاأرفعنك لرسول الله «صلى الله على وسلم» فتغير وجه الرسول ثم قال: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية»، فبكى أبو ذر وقال يا رسول الله، استغفر لي، ثم خرج باكياً من المسجد ووضع خده على التراب.. وقال: والله يا بلال لا أرفع خدى عن التراب حتى تطأه بقدمك، أنت الكريم وأنا المهان.. فأخذ بلال يبكى واقترب وقبل ذلك الخد وقال: والله لا أطأ وجهاً سجد لله سجدة واحدة، ثم قاما وتعانقا وتباكيا.
أما نحن للأسف فإننا غارقون فى التعالى والجفاء والانسياق وراء القيل والقال، لا تعرف مجتمعاتنا ثقافة الاعتذار.. وهنا يثور سؤال ماذا يخسر المجتمع إذا غابت عنه فضيلة الاعتراف بالخطأ، وبالتالى الاعتذار عن السلوكيات المعيبة؟!..
والإجابة: أن الأجيال الجديدة تنشأ على العناد والإصرار وتبنى مواقف خاطئة جديرٌ بكل أب ومعلم وواعظ أن يعلموا صغارنا أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن الاعتراف بالخطأ سلوك أخلاقى لا يصدر إلا عن أصحاب النفوس القوية، وهو ليس علامة ضعف، بل رجاحة عقل وأمانة ونزاهة وانصاف وشفافية وصدق فى التعامل مع الأمور كلها.
وهنا يثور سؤال آخر: ماذا يكسب الفرد والمجتمع من التمسك بفضيلة الاعتذار؟
والجواب: أن الاعتذار يحقق للفرد سعادته وانسجامه وتصالحه مع نفسه ومجتمعه، به يتميز العقلاء بالعودة للصواب، وبه يرتقى النبلاء فى محو أثر الزلل، يرفع من قدر صاحبه، وينفى عنه مظنة الكبر، وبه تمسح آثار الحقد والكراهية من القلوب، وتفتح به الأبواب أمام التسامح والتواصل، وهو حصانة قوية للابتعاد عن الخطأ، وعدم المبالاة بمشاعر الآخرين ؛ لذلك فهو مطلب ملح لالتئام الصف، ودوام الوحدة وصلاح المجتمعات.
ما أحوج مجتمعات اليوم إلى أن يكون الاعتذار جزءًا من علاقاتها الاجتماعية، ورمزًا من رموز ثقافتها الإسلامية، فهو السبيل لتذويب الخلافات، والتئام الجروح المتفشية فى أوساطنا، حتى يكون خلقًا يُحتذى من غير إجبار ولا تكلف.
تعالوا نتعلم جميعاً كيف نعتذر إذا أخطأنا، فذلك من تعاليم الإسلام القويم، يقول الله تعالي: :وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «الأعراف :164».. ويقول الله تعالي: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «الزمر:53».
أما الاعتذار عن الخطأ فهو واجب، والأوجب منه قبول الاعتذار؛ ففيه دليل على صدق الإيمان والتسامح والحرص على سلامة البنيان الاجتماعى وصفاء القلب وسمو النفس والقدرة على العفو والتعايش وتلك أهم مقومات المجتمع الآمن.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « من اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه مثل خطيئة صاحب المكس.. قال: وكيع يعنى العاشر.
وقال عمر رضى الله عنه: لا تلم أخاك على أن يكون العذر فى مثله.
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: لو أن رجلاً شتمنى فى أذنى هذه واعتذر فى أذنى الأخرى لقبلت عذره».
الاعتذار خلق إسلامى ودعوة للاستقامة، وتجنب الأخطاء، خلق يؤكد اتزان شخصية صاحبها، وحسن تربيته، ونبل من يقدم عليه، ويبرهن على حسن نواياه، وصدق مقصده، فالإسلام دين يلزم أتباعه بفضيلة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، باعتباره أحد مظاهر الأخلاق النبيلة، وبرهان صدق للقلوب الحية، وسجية محمودة لا يتمتع بها إلا من رزقه الله فطرة سوية مثل فطرة الإسلام الخالية من كل كبرياء زائف، ومن كل سلوك متعجرف يعبر عن غرور صاحبه.
هل تعلم أن جملة «أنا آسف» بعد الخطأ هى أجمل رسالة حب يمكن أن تحل أكثر المشكلات تعقيداً والأقدر على إذابة الجليد وإعادة الدفء والمودة بين الحبيبين. فلا نتردد أو تتردى أن تقول «أنا آسف».. لمن تحب. وتأكد أنك دائماً ستكسب كثيراً وتعيش فى صفاء نفس وسعادة لا تقدر بثمن.
ويا كل زوج وزوجة وقع بينهما سوء تفاهم لا تأخذوا الأمر بحساسية، وتذكر أنك باعتذارك تعيد المياه لمجاريها وتستعيد الشعور بالرومانسية مع شريك الحياة.
الاعتذار فعل نبيل يجدد الأمل ويبث الحيوية فى أوصال العلاقات الاجتماعية ويساعدنا فى التغلب على الشعور باحتقار الذات وتأنيب الضمير ويعيد الاحترام لمن أسأنا إليهم ويفتح باب التواصل والمحبة.
وإذا كان الاعتذار فضيلة فالأفضل أن يحذر الإنسان الوقوع فى الخطأ وتحاشى ما يُعتذر منه لقول النبى صلى الله عليه وسلم «إياك وكل ما يعتذر منه» فالاعتذار من الأخلاق الحسنة وهو البداية الواجبة لأى صلاح أو إصلاح للمسار وتصويب الأداء لاسيما لدى كل من يتصدى لخدمة الناس والقيام على شئونهم، وهو تحصين للعلاقات الاجتماعية ضد فيروس التفكك والتناحر والخصام والتباغض فى زمن الحروب والصراعات والأوبئة ومواقع التنابذ الاجتماعى .
الاعتذار بلسم يضمد الجروح ويشفى النفوس من الغل والحقد ويصون السلام الاجتماعى الذى اهتز بشدة نتيجة سوء استخدام التكنولوجيا التى باتت معول هدم وباعثا على التوتر والضيق والقطيعة وانتهاك الأعراض والخصوصيات.
الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتذار عنه فضيلة أخري، وكلاهما فضيلة تعزز روابط الألفة والمحبة بين البشر، وهما فى نفس الوقت وسائل تمنعنا من فقدان من نحب؛ فالاعتذار بلسم يشفى كثيراً من الجروح ويمنع تطور الخصومة إلى جفاء وعداوة وبغضاء.
البعض يعتقد أن من البشر من لا يستحق الاعتذار، بينما لا يتردد البعض فى الاعتذار لشخص غريب أو صديق.. وبعض الناس لا يتردد فى بذله صاغراً لمن هم فوقه أو لجهة نافذة يخشى بأسها لكنه يضن بكلمة طيبة لأقرب الناس إليه وهذا تناقض صارخ يعود لأحد أمرين: إما استعلاء وتكبر وإما أنه يتوقع من الطرف الآخر أن يتفهم الموقف ويسامحه بشكل آلى كأحد أفراد الأسرة وخصوصاً الوالدين وتلك طامة كبرى وعقوق لا تطاق عاقبته.. فلنحذر!!