فى ظل التغيرات المتسارعة التى تشهدها الساحة العالمية، أصبح من الواضح أن الاقتصاد لم يعد مجرد قطاع منفصل عن السياسة، بل بات يشكل عنصرًا أساسيًا فى صياغة الاستراتيجيات السياسية وتعزيز الأدوار الدولية. وهو ما يفسر كيف تمكنت دول مثل الصين من إعادة تشكيل النظام العالمى بفضل قوتها الاقتصادية، متجهة نحو نظام تعددى يبتعد عن الهيمنة الأحادية. فى هذا السياق، تسعى مصر إلى استخدام «دبلوماسية الاستثمار» بصورة جديدة تتجاوز الممارسات التقليدية، مستندة إلى تصدير الخبرات وتنمية العلاقات مع جيرانها فى إفريقيا.
لطالما كانت الولايات المتحدة نموذجًا للدبلوماسية الاقتصادية، عبر سياسات إعادة الإعمار والدعم الاقتصادى الذى قدمته لحلفائها بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الرؤية التقليدية لدبلوماسية الاستثمار التى تعتمد على ضخ الأموال المباشرة أو السماح بدخول المنتجات إلى الأسواق الأمريكية، قد تحولت فى الآونة الأخيرة إلى آلية «المنح والمنع»، مما أثر على علاقاتها حتى مع حلفائها. هذا التغيير يعود جزئيًا إلى تقلبات الأوضاع الدولية وصعود الحواجز التجارية، وهو ما دفع بعض الدول إلى البحث عن بدائل فعالة.
فى هذا الإطار، تتبنى مصر رؤية مبتكرة لدبلوماسية الاستثمار، حيث تركز على تصدير الخبرات وتقديم الدعم الفني، إضافة إلى السعى نحو الاستثمار المالى المباشر. تعكس هذه الاستراتيجية بوضوح سعى القاهرة لتكوين شراكات حقيقية مع دول القارة الإفريقية، من خلال تقديم الدعم الفنى والخبرات اللازمة لتنفيذ مشروعات تنموية.
أحد أبرز نماذج هذا التوجه هو سد «جوليوس نيريري» فى تنزانيا، حيث شاركت مصر بخبراتها فى بناء هذا المشروع الحيوى الذى يعزز من قدرات تنزانيا على الاستفادة من مواردها المائية. هذا النموذج يعكس كيف يمكن لدبلوماسية الاستثمار أن تساهم فى تحقيق التنمية المستدامة من خلال التعاون الفعّال والشراكات الحقيقية.
تسعى مصر، من خلال استراتيجيتها الجديدة، إلى تعزيز مناخ الثقة الإقليمى وبناء سمعة إيجابية فى قارة إفريقيا. فهى تسعى إلى تقديم نفسها كشريك موثوق يدعم التنمية الإقليمية بدلاً من السعى لفرض الهيمنة. هذا الموقف يتناقض مع سياسات بعض الدول التى تسعى إلى تشويه صورة مصر لتحقيق مكاسب سياسية على حساب حقوق التنمية فى المنطقة.
من خلال مبادرات مثل دعم مشاريع التنمية فى دول الجوار الإفريقي، تثبت مصر التزامها بمفهوم التنمية المستدامة الذى يتجاوز الحدود الوطنية. هذا التوجه يعزز من موقفها كقوة إقليمية تسعى لتحقيق الاستقرار والتنمية الشاملة فى محيطها.
تمثل دبلوماسية الاستثمار المصرية تجسيدًا حديثًا لفهم متطور لعلاقة الاقتصاد بالسياسة، حيث تعتمد على تصدير الخبرات والتعاون الإقليمى كوسيلة لتعزيز التنمية المستدامة.. من خلال مبادراتها المبتكرة، تقدم مصر نموذجًا يمكن أن يُحتذى به فى كيفية استخدام القوة الاقتصادية لدعم الأهداف السياسية، وتعزيز الثقة فى العلاقات الإقليمية، وتصحيح الصورة المغلوطة التى قد تتسرب من سياسات بعض الدول. إن استراتيجيات مصر الجديدة ليست مجرد توجيه للموارد الاقتصادية، بل هى أيضًا رسالة واضحة بأن التنمية المستدامة تتطلب تعاونًا حقيقيًا وشراكات استراتيجية.