بما اننى انتمى إلى فئة البشر غير المواكبين لروح العصر.. وحيث إننى افتقر إلى الروح الغنائية الشبابية، ولا أجيد فنون هز الوسط والتمايل على أنغام المهرجانات، فقد قررت ذات ليلة الهروب من التلوث الغنائى الضجيجى المتفشى كالوباء، إلى الطرب الأصيل والألحان الشجية والمعانى الرقيقة والكلمات الحالمة، وكانت تجربة مؤلمة قررت ألا أكررها أبدا.
كان ذلك قبل أعوام، وكان نجم السهرة هو الفنان صباح فخرى رحمه الله.. صاحب القدود الحلبية والمواويل التراثية، والمطرب السوبر الذى يستطيع أن يغنى لمدة أربعة وعشرين ساعة متصلة بدون توقف أو تعب، وهو ما أكده بنفسه فى مناسبات عديدة. كان الحفل مقاما فى صالة مغلقة بأحد الفنادق الكبري، والقاعة مزدحمة عن أخرها، وهو ما جعلنى اطمئن قليلا على قدراتى التذوقية، فلست وحدى الهارب من ضجيج وخناقات الأغانى الشبابية، هناك المئات مثلي، وعلى الرغم من أن فاتورة هذه السهرة «المحترمة» جعلتنى اشد الحزام لعدة أيام، إلا أن الأمر كان يستحق المجازفة المالية، فقد كنت فى حاجة ماسة إلى ما يمكن أن نطلق عليه «غسيل الأذن» لإزالة ما تراكم فيها من ترسبات الأصوات النشاز والضجيج المزعج، ولكن حظى العاثر حرمنى من كل ذلك وحول السهرة الفنية العلاجية إلى كابوس. فقد جلست بدون اختيار بجوار أحد مكبرات الصوت العملاقة فى الصالة الصغيرة نسبيا، وما أن علا صوت الموسيقى حتى داهمتنى نوبة صداع مؤلمة وأحسست بالاختناق وتزايدت دقات قلبي، وارتفع ضغطى وتصبب العرق من وجهى برغم برودة التكييف، وبدلا من الاستماع والاستمتاع أمضيت معظم السهرة فى محاولة تخفيف تأثير السكاكين الصوتية التى تمزق رأسي، حشوت أذنى بكل ما وقعت عليه يدى من مناديل ورقية دون فائدة، فكرت عدة مرات فى ترك الحفل والانصراف.. فاتهمنى صديقى الذى شاركنى السهرة بالجنون، فما دفعناه كثير، ومن حقنا أن «نعاني» بفلوسنا، أو أن أعانى أنا ويستمتع هو، واتهمنى بالمبالغة، فالأمر ليس بهذا السوء.
ولأننى كنت الوحيد تقريبا الذى أمضى السهرة واجما متجهما متألما.. فقد تصورت أننى مصاب بحالة من فرط الحساسية السمعية تجعلنى لا أتحمل الأصوات المرتفعة حتى لو كانت طربية، وظل هذا الإحساس مسيطرا علي، أصبحت أتجنب كل مصادر الضوضاء ما أمكن، إلى أن قرأت قبل أيام تقريرا طبيا يؤكد أننى لست الوحيد المريض بالحساسية ضد الضجيج، والاهم من ذلك أننى مازلت احتفظ بقدراتى العقلية واتزانى النفسى برغم كل الضوضاء المحيطة بنا، فغيرى فقدوا عقولهم واقتربوا من حافة الجنون.
فقد كشفت دراسة أجرتها الأكاديمية الملكية البريطانية عن إصابة حوالى مليون من الشباب المراهقين فى العالم بالانهيار العصبى سنويا بسبب الضجيج العنيف والضوضاء الصاخبة، وان هذا العدد يزداد باطراد عاما بعد عام، وان إجمالى عدد ضحايا الضجيج الصاخب على المستوى العالمى يزيد على عشرة ملايين شخص فى العام.
وقال تقرير الأكاديمية أن عدد ضحايا الضجيج الصاخب وصل إلى 75 ألف حالة وفاة بين المراهقين والشباب والذين تتراوح أعمارهم بين 14 و24 عاما، وأشار استطلاع للرأى أجرته الأكاديمية وشمل عينات من مجتمعات مختلفة ومن مختلف المستويات إلى أن 85 فى المائة من الذين خضعوا للدراسة وذلك من اصل 755 ألف شخص اجمعوا على أن الضجيج يعتبر من أخطر الآفات العصرية التى تواجهها البشرية مما يهدد حياة مئات الملايين من سكان الأرض.. ولا عزاء لعشاق تلوث اغانى المهرجانات الصوتي.