كان الفشل هو العنوان الأكبر لجولة وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن الخامسة فى المنطقة الأسبوع الماضي، فقد فشل بلينكن فى التوصل لاتفاق تهدئة بين الكيان الصهيونى وحركة «حماس» يتيح تبادل الأسرى ويضمن تدفق المساعدات لقطاع غزة، الأسوأ ما شهدناه من تطورات هذا الأسبوع متمثلة فى التصعيد الاسرائيلى وبدء التمهيد النيرانى للاجتياح البرى لمدينة رفح الفلسطينية، فى خطوة تثير الرعب والخوف فى العالم، إذ أن العدوان الاسرائيلى على غزة والذى بدأ فى أكتوبر الماضى وخلف أكثر من مائة الف شهيد وجريح حتى الآن، يتوقع أن يشهد باجتياح رفح سقوط مئات الآلاف من المدنيين العزل، وأن يتجاوز فى آثاره المؤلمه تدمير هيروشيما ونجازاكى بالقنبلة الذرية فى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وحتى نستوعب خطورة الاجتياح البرى الاسرائيلى لمدينة رفح الفلسطينية فى حال حدوثه، يكفى أن نعرف أن المدينة الواقعة فى جنوب قطاع غزة وتبلغ مساحتها نحو 55 كيلو مترا مربعا، كان يقطنها قبل العدوان الاسرائيلى على القطاع حوالى 150 ألف نسمة، بينما بلغ عدد من يعيش فيها حاليا ونزح إليها بعد العدوان 1.4 مليون نسمة بمتوسط 27 ألف شخص فى كل كيلومتر مربع، هذا العدد الكبير لايعانى فقط من التكدس غير الآدمى وغير الانسانى ولا من القصف والقتل والدمارالمستمر من جانب الطيران الاسرائيلي، وإنما يعانى أيضا من الحصار والتجويع وقطع المياه والكهرباء ومنع وصول المساعدات والوقود ثم وهو الأسوأ تدمير المستشفيات والاصرار على قتل الأطفال والنساء.
هذه الصورة تعنى ببساطة أن هناك 1.4 مليون فلسطينى فى مدينة رفح يواجهون الموت بمختلف أشكاله ومن جميع الاتجاهات كل يوم، وانهم فى حال الاجتياح البرى لجيش الاحتلال سيسقط منهم مئات الآلاف، بينما لن يكون أمام مئات الآلاف الآخرين سوى التوجه إلى شمال ووسط القطاع إذا سمح الاحتلال بذلك- أو الهروب إلى البحر، وامام هذه الصورة غير الانسانية والمعقدة يلفت الانتباه ما صرح به بلينكن فى ختام جولته بأن مساعيه فشلت فى وقف الاجتياح وفى إيجاد أرضيات مشتركة مع رئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتنياهو، بينما تحدث الأخير عن أولوية المعركة العسكرية فى رد مباشر على تحفظات موقف الوزير الأمريكي، فيما اتفقت وسائل إعلام غربية على أنه لأول مرة يصبح البيت الأبيض أسيرا لاسرائيل، ولأول مرة يكتشف العالم أن الولايات المتحدة أصبحت عاجزة بالفعل عن صرف «العفريت» الذى احضرته ودعمته وهو بنيامين نتنياهو، فى حربه «البربرية» ضد سكان قطاع غزة.
هذا عن الموقف الأمريكى «العاجز»، أما عن الموقف الأوروبى فهو أكثر «عجزا وضعفا و أنسياقا»، حيث اكتفت معظم الدول الأوروبية بالتعبير فقط عن «القلق» من اجتياح رفح، ومن سقوط أعداد كبيرة من المدنيين العزل، دون التحرك لمنع هذه المجزرة المتوقعة و دون طرح حلول واقعية لانهاء الأزمة، فيما دعا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل إلى ضرورة استئناف المفاوضات للافراج عن الرهائن الاسرائيليين باعتباره السبيل الوحيد لتجنب إراقة الدماء فى قطاع غزة، وقال: « إننى أحذر من أن الهجوم الاسرائيلى على رفح سيؤدى إلى كارثة إنسانية لا توصف وتوترات خطيرة مع مصر التى تشترك فى حدود طويلة مع غزة ورفح الفلسطينية».
وحقيقة فإن ما ذكره الممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى حول تأثير ما حدث ويحدث فى غزة على مصر يظل النقطة الفاصلة فى مستقبل المنطقة، سيما وأن مصر منذ بداية العدوان على القطاع فى أكتوبر الماضي، مارست دورها كدولة عربية حريصة على القضية الفلسطينية وعلى الأمن الاقليمى فى الشرق الأوسط وعلى الأمن والسلم الدوليين، كذلك كدولة تربطها معاهدة سلام مع إسرائيل، ووفق هذا الاطار عقدت مصر- عقب العدوان على غزة مباشرة – المؤتمر الدولى للسلام بالقاهرة، وأجرى الرئيس عبد الفتاح السيسى عشرات اللقاءات والاتصالات الهاتفية مع قادة ومسئولين عرب وأجانب لأجل عدم اتساع دائرة القتال ونفاذ المساعدات الانسانية لسكان غزة، وكذلك التأكيد على عدم السماح بتصفية القضية الفلسطينية أوتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء.
هذه المحطات وهذه الجهود يجب أن يدركها كل مواطن مصرى فى هذه المرحلة الاستثنائية التى تمر بها بلادنا، فالأزمة هنا لا تقتصر على عدوان إسرائيلى غاشم على قطاع غزة، وإنما فيما بدأه الاحتلال فى شن حرب إبادة على مدينة رفح الفلسطينية، تستهدف فى الأساس تهديد حدودنا الشمالية الشرقية ولا تلقى اعتبارا لاتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية بما يعنى فى النهاية أننا أمام منعطف خطير لايتطلب فقط الاصطفاف خلف القيادة السياسية وانما الاستعداد لما هو قادم لأنه يتجاوز مفهوم التطويق والحصار، إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير وكثير جداً .. فلننتبه.