عندما نجد مذكرات تفاهم وبروتوكولات بهذا العدد والأهمية وبياناً مشتركاً يتضمن بنوداً عديدة بهذا الوضوح والتأكيد وتغطى كافة الملفات فالمؤكد أن وراء هذا كله جهداً كبيراً تم بذله خلال الشهور الماضية للتجهيز لهذه الزيارة الرئاسية المهمة للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى أنقرة الأربعاء الماضي تلبية لدعوة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان.
ولا يمكن أن يتم كل هذا الجهد في كل المجالات تقريباً وبأدق التفاصيل إلا إذا كانت هناك قناعة فعلية من الدولتين بأن التعاون هو الطريق الواجب خلال الفترة المقبلة، ليس في مجال محدد بل في كافة المجالات لدرجة يبدو معها أن هناك رغبة أكيدة من البلدين بتعويض ما فاتهما من تعاون طوال السنوات الماضية.
ولم يكن هذا واضحًا فى الاتفاقات وبروتوكولات التعاون الرسمية فقط، بل أيضا فى مستوى الاستقبال والحفاوة البالغة بالرئيس السيسى والوفد المرافق له في أنقرة والتي عکست الرغبة الأكيدة لدى الجانب التركي في الوصول بمستوى التعاون إلى أبعد نقطة استراتيجية وفي كل المجالات بل أن بنداً خاصاً تحدث عن توسيع نطاق التشاور ليشمل قطاعات مهمة، مثل العسكرى والأمنى، وهو ما يعنى بوضوح أن التوجه هو فتح صفحة جديدة تماما تذيب كل ما يمكن أن يكون قد تراكم من سحب على العلاقة وتبنى على ما بين الدولتين من مشتركات تاريخية وهي كثيرة.مصر لم تتنازل لحظة عن أحد ثوابتها.. ولم تفرط في أى من مصالحها أو أمنها القومي ومقدرات شعبها
ولأن الاقتصاد هو الركيزة الأهم الآن في أي علاقات وبناء عليه يمكن أن تتحدد معالم ومستويات العلاقات السياسية، لذلك فعندما نراجع تصريحات الرئيسين ستجدها في الجزء الأكبر منها تركز على الاقتصاد والاستثمار والتعاون التجاري، كمكون رئيسي من التعاون بين البلدين خلال الفترة المقبلة، وأكد ذلك أن بنود الإعلان المشترك الذي خرج عن مجلس التعاون الاستراتيجي في اجتماعه الأول بعد إعادة تشكيله شملت 36 بندأ منها نحو 22 بندأ عن الجانب الاقتصادي وفتح مجالات جديدة للتعاون، منها تأكيد على الترحيب بكل الاستثمارات الجديدة وتطوير مناخ الاستثمار الرجال الأعمال في البلدين واتخاذ كافة الاجراءات لإزالة أي معوقات تعطل هذا المسار.
وكذلك تأكيد على مجالات الصناعة وفي مقدمتها الصناعات الصغيرة والزراعة والتكنولوجيا والسياحة التي يمكن أن تكون أحد أهم مكاسب تطوير العلاقات خلال السنوات القادمة وكما أكدت مصادر مختلفة فإن عشرات إن لم يكن مئات الشركات التركية الكبيرة تسعى لدخول السوق المصرية خلال الفترة المقبلة عبر استثمارات متنوعة وهناك بالفعل ممثلون عن نحو خمسين شركة تركية قد يزورون القاهرة قريبًا للاطلاع على الفرص الاستثمارية المتاحة.
كما أن إحدى كبريات الشركات التركية العاملة في الصناعة ستفتتح مصانعها على أرض مصر خلال هذا الشهر ولأنها شركة رائدة فهناك اهتمام بحضور كبير للافتتاح لأنها ستكون رسالة لكل الشركات التركية بأهمية ونجاح الاستثمار في مصر وخاصة في مناطق مثل العاصمة الادارية والهيئة الاقتصادية لقناة السويس وفي مجالات عديدة مثل صناعة الكيماويات والأسمدة والملابس التي تتميز بها تركيا.
وحسب مسئول تجارى كبير فإن الاستثمار في مصر فعلا أصبح أولوية تركية نظراً لما شهدته البلاد من عملية بناء متكاملة والبنية التحتية المتطورة والمزايا الممنوحة للمستثمرين والحوافز المتاحة لهم، كما أن هناك بالفعل مؤشرات واضحة على مزيد من عمليات التصدير المتبادل بين البلدين بما يرفع حجم التجارة البينية، وهذا هو بالفعل الترجمة الحقيقية للتعهد الذي قدمه الطرفان بالعمل على زيادة التجارة البينية من 7 مليارات حاليا إلى 15 ملياراً خلال خمس سنوات، وهو رقم في حال تحقيقه فسيكون نقلة كبيرة في العلاقات، بجانب التطور الذي شهدته السياحة التركية إلى مصر خلال الشهور الماضية وهو مؤشر مهم يمكن البناء عليه.
ارتباطاً بهذا يأتي ملف الطاقة الذي استحوذ على مساحة من البيان المشترك وكذلك كلمتا الرئيسين، وخلاصة ما جاء في البيان دعم التعاون في مجال التحول في الطاقة بمبدأ المنفعة المتبادلة، لكن الرئيس السيسي كان واضحا عندما أكد خلال كلمته البناء على التهدئة الحالية في شرق المتوسط وتسوية الخلافات بين الدول المتشاطئة في هذه المنطقة والتعاون وتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة بها لتحقيق الرفاهية الشعوب المنطقة جميعاً دون استشاء، وهذه كلمات محسوبة بدقة وتكشف أن هناك توافقاً على أن ملف الطاقة لن يكون مثار خلاف في المستقبل بل قد يتحول إلى منطقة تعاون، وهو ما أشار إليه أردوغان ايضا عندما قال: “نريد تطوير تعاوننا مع مصر في مجال الطاقة خاصة الغاز الطبيعي والطاقة النووية”.
وهنا يجب أن نتوقف عند الهدف الاساسي من توقيع 18 اتفاقية ومذكرة تعاون في يوم واحد، وهو رقم كبير لكن الأهم ليس في عددها وإنما في رسالتها والتي تؤكد كما ألمح إلى ذلك الرئيس السيسي إلى وضع إطار مؤسسى جديد ومهم للتعاون بين مصر وتركيا، بما يضمن استمراريته وتطويره بشكل دائم وأن يكون تعاون الدولتين من أجل مصلحة الشعبين.
الأمر الثاني: الذي يستحق التوقف أمامه أن قيادتي البلدين اثبتنا خبرة وحنكة لانهما نجحا رغم كل التراكمات السلبية خلال السنوات الماضية في أن يتجاوزا هذا الأمر ويديرا العلاقة خلال الشهور الأخيرة بعيدًا عن أي رواسب من الماضى بل انطلقا سريعاً إلى المستقبل عبر خطوات ايجابية، أولا لان كلا البلدين يعرف قيمة الآخر وتأثيره وامكاناته، وهذا ما تم التعبير عنه فى المؤتمر الصحفى المشترك للسيسى واردوغان، وثانياً لليقين بأن توطيد العلاقة والتشاور المستمر على المستويين السياسي والدبلوماسى سيكون له تأثير واضح على العديد من قضايا المنطقة، وبما يسهم في تحقيق الاستقرار ويخدم الأمن القومى للبلدين.
وهذا ما أكد عليه الرئيس السيسى عندما قال أن ما تعيشه منطقتنا وعالمنا اليوم.. من أزمات وتحديات بالغة.. يؤكد أهمية التنسيق والتعاون الوثيق بين مصر وتركيا، وتجسيدًا لهذا وتأكيدا على تعدد الملفات التي تخص البلدين وجدنا النقاش بين الرئيسين امتد تقريبا إلى كل القضايا الاقليمية، من غزة ومأساتها حيث التوافق والوحدة في موقف البلدين، وكذلك السودان وكارثتها التى شدد الزعيمان على ضرورة انهائها، وليبيا والفوضي المسيطرة عليها والتوافق على أهمية فتح المجال للحل السياسي بأيدى الليبيين أنفسهم وخروج الميليشيات والمرتزقة، وصولا إلى سوريا والأمل فى الاستقرار الذي تستحقه، ومنطقة القرن الأفريقى وما تحتاجه من تأكيد احترام سيادة دولها.
استمرار التعاون تنسيقيًا وتشاورًا وتعاونًا واستثمارًا سيعود على 192 مليون مواطن هم إجمالى شعبي البلدين بالفائدة
وكل هذه الملفات بالفعل تتطلب حواراً مصرياً تركياً مستمراً وتنسيق المواقف بينهما لان ذلك سيعنى وضع حلول عملية للأزمات والصراعات التي تعيشها، فكلا الدولتين لديهما القدرة على ذلك طالما كان هناك تنسيق وتوافق.
ولهذا فإن بيان مجلس التعاون الاستراتيجي تضمن 14 بندا تناولت كافة الملفات والموضوعات السياسية والإقليمية لأنها لا يمكن أن تسقط من حسابات البلدين، بل لا أبالغ أن قلت أن هناك عواصم عديدة تابعت قمة السيسى وأردوغان باهتمام بالغ لآن مخرجاتها ستنعكس على أوضاعها وربما تغير معادلات كثيرة فى المنطقة خاصة وأن بعض التحركات والتحالفات كانت تراهن على الخلافات السياسية بين الدولتين، ومع التقارب الكبير الذى حدث سوف تتوقف أو على الأقل تتراجع هذه التحركات ويقل تأثيرها.
النقطة الثالثة: التى تستحق التوقف أمامها في الزيارة التاريخية قمة السيسى – أردوغان وهى التى تختص بالروابط الثقافية بين البلدين والتي استحوذت على أحد أهم بنود البيان والتأكيد على تاريخيتها وعمقها والحرص على مد جسورها مرة أخرى اعتمادًا على الإرث الحضاري والثقافى المشترك، وهذا فى حد ذاته خطوة مهمة فهناك بالفعل علاقات ثقافية تاريخية بين الشعبين تمثل إطار متين ولو تم البناء عليها فستكون إضافة مهمة تساند تدعيم العلاقات، خاصة إذا ربطنا هذا ببند تال تضمنه بيان مجلس التعاون الاستراتيجي ويتحدث عن تطوير التعاون في المجال الإعلامي ومكافحة المعلومات المضللة، وهو توجه حميد ويعكس الرغبة الفعلية في تلافي سلبيات فترة سابقة لعب فيها الإعلام المضاد دوراً سلبياً ضد مصر تحديدا، لكن مع تفعيل هذا البند وفي إطار الإصرار على توطيد العلاقات وترفيعها إلى مستوى الاستراتيجية يمكن أن يحدث العكس ويتحول الإعلام إلى احدى وسائل التقارب والحوار ومد الجسور والتصدى لأكاذيب وتضليل السوشيال ميديا.
النقطة الرابعة: تخص مئوية تأسيس العلاقات المصرية – التركية والتي تحل العام القادم 2025، وهى تستحق بالفعل وفي إطار التطور الايجابي الذي شهدته الشهور الماضية أن يكون عامًا احتفاليًا في البلدين على كافة المستويات سياحيا وتجاريا وفنيا وثقافيا وشبابيا أيضا، فالدولتان وفق هذا التطور فى العلاقات وما تسعيان إليه من تنويعها، تحتاجان استراتيجية مشتركة للحوار بين الشباب المصرى والتركى وليس أنسب لهذا الأمر من احتفالية المئوية والمؤكد أن لجنة التخطيط المشترك برئاسة وزيرى الخارجية قادرة على ان تقدم احتفالا مختلفا بهذه المناسبة يليق بدولتين لهما حضارة وبينهما تاريخ مشترك.
النقطة الخامسة: هي ما أشار إليه الرئيس السيسى وتعنى بالبناء على التواصل المباشر بين قيادة البلدين، وهذا أمر غاية في الأهمية لأنه سيضمن استمرار التعاون واتخاذ القرارات الاستراتيجية وتلافي أي عقبات في أي ملف والتصدي السريع لأي تحديات.
الحقيقة أن الزيارة الرئاسية إلى أنقرة وإن استغرقت عدة ساعات لكنها توجت جهد شهور طويلة من العمل المشترك والتحضير المحترف قام به فريق من البلدين يعى تمامًا أهمية هذه العلاقة وضرورة تعميقها وتوطيدها، ولهذا فالمتوقع مع استمرار هذا التعاون أن تشهد الفترة المقبلة مرحلة مختلفة في كل شيء، تنسيقا وتشاوراً وتعاوناً واستثمارا وهو ما سيعود على 192 مليون مواطن هم اجمالی شعبى البلدين بالفائدة بل وقد يغير بالفعل معادلات كثيرة في المنطقة.
ويبقى في النهاية التأكيد على عدد من الأمور:
- أولها: أن ما حدث يحسب للدولة والقيادة المصرية التي ظلت طوال السنوات الماضية تعمل وتبنى دون تأثر بحملات تشويه أو عدائيات أو تنشغل بصراعات، أو تنجرف إلى مستويات لا تليق في التعامل، بل تعاملت يشرف ومصداقية ووعى لا ينقصه الحسم وبصلابة وارادة لايمانها بأن القوة وصلابة الموقف والوضوح هي التي تصنع التغيير وتفرض المواقف وقد نجحت هذه السياسة الوطنية الرشيدة ببراعة.
- ثانيها: أن مصر دولة وقيادة حتى في أشد فترات المواجهة لم تنهزم ولم تنجح اى مخططات في احاطتها بالاحباط أو اثارة الفوضى، وفى الوقت نفسه لم تغلق باب العودة ولم ترفض من الايدى للتعاون مع اى طرف طالما انه يحقق مصالح الشعب المصرى.
- ثالثها: أن مصر لم تتنازل لحظة عن أحد ثوابتها ولم تفرط في أي من مصالحها أو أمنها القومى ومقدرات شعبها بل كانت وما زالت واضحة في هذه الملفات وكما تحترم الآخرين فهي ايضا تلزم الآخرين باحترامها فكل علاقات مصر الخارجية طوال السنوات الماضية قامت على أساس هذه الثوابت الوطنية التي لا تنازل عنها.
- رابعها: أنه كما قال الرئيس قبل ذلك لا يمكن لجماعة مهما كانت ان تهزم دولة، ويمكن التأكيد ايضا انه لا يمكن لجماعة أن تغير ثوابت التاريخ او تدمر علاقات شعوب، ولهذا فقد ذهبت الجماعة الإرهابية غير مأسوف عليها وبقيت الدولة تتزايد قوتها وبقيت علاقات الشعوب هي الثابتة المستقرة.
- خامسا: إن المكاسب التي تحققت في هذه الزيارة للبلدين كثيرة، ومن المصلحة الحفاظ عليها، والعمل بجدية من خلال مجموعة التخطيط المشترك على تنميتها ودعمها بكل سبل التنسيق والتشاور المستمر وفتح كل الأبواب الممكنة للتعاون لضمان نجاحها الدائم.