الحياة أكبر مدرسة يتعلم فيها الإنسان، والحكيم من اتعظ بغيره قبل أن يتعظ بنفسه، وليس شرطًا أن تتعلم بالتجربة، فكم من تجارب مريرة تركت أصحابها مشوهين مشتتين بلا معالم واضحة، وكم قابلت فى حياتك شخصًا خرج من تجربته ناقمًا على نفسه وعلى من حوله لقسوة ما عانى من مرّ التجارب؛ وإذا كان البعض وربما كثير من الناس يرون السعادة فى الأموال ويتمنون أن يكونوا مثل فلان أو علان من أصحاب الثروات الضخمة وتلك عادة قديمة عرفناها فى القرآن فى قصة قارون الذى حيزت له الدنيا بكنوزها وزينتها وأموالها لكن كيف كانت نهايته؟!
يقول الله تعالى فى محكم التنزيل « فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ – لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا – وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (القصص:79-82).
وفى حياتنا المعاصرة أغنياء كثرٌ، أما أغنياؤنا فقليل منهم من يعرف لله حقه فى المال، وأكثرهم ينفقون على ملذاتهم بلا حساب، ولا يرون للفقير حقًا معلومًا فيما رزقهم الله من أموال..وفى الغرب ترى كثيرًا من الأغنياء وخصوصًا مشاهيرهم يزهدون فى الترف ويدركون أن للمال وظيفة اجتماعية فيتبرعون للفقراء وذوى الحاجة وطلبة العلم بأموال كثيرة، وربما تبرع بعضهم بثروتها كلها، أو أكثرها أو جلها فى حياته وأوقفها على مصارف النفع العام؛ ووفقًا لتقديرات «فوربس»، تبرع أكبر 25 مانحًا للأعمال الخيرية فى أمريكا بمبلغ 196 مليار دولار على مدار حياتهم حتى نهاية عام 2022، مقارنة مع 169 مليار دولار فى العام السابق.. وتصدر «وارن بافت» قائمة أكثر المليارديرات تبرعًا للأعمال الخيرية بعدما تبرع بمبلغ 5.4 مليار دولار فى عام 2022، و51.5 مليار دولار على مدار حياته.
كما تبرع «سيرجى برين» أحد مؤسسى «جوجل»، والملياردير «كيفن جريفين» بمبلغ 2.55 مليار دولار و1.56 مليار دولار على الترتيب.
أما أكثر ما لفت نظرى هو عمق الرؤية التى ينظر بها بعض هؤلاء الأغنياء للحياة؛ فمثلاً الملياردير ستيف جوبز، أحد أقطاب الأعمال فى الولايات المتحدة، ورئيس مجلس إدارة شركة آبل الذى توفى عن عمر يناهز 56 عامًا بعد معاناة مع سرطان البنكرياس، وقد خلَّف ثروة قدرها 7 مليارات دولار؛ ومن رحم معاناته مع المرض جاءت كلماته عميقة تجسد رؤية نافذة لفلسفة الحياة والمرض والموت والنهايات المحتومة التى هى آتية لا ريب، مهما تهربنا منها يقول جوبز:
« حياتى هى جوهر النجاح، لكننى ليس لديّ فرحٌ كبيرٌ بما أملكه.. فى النهاية الثروة أصبحت مجرد رقم أو شيء من الأشياء التى اعتدت عليها …فى هذه اللحظة، وأنا مستلقٍ على سريري، مريض أستعيد شريط حياتي، أدرك أن كل سمعتى والثروة التى أمتلكها لا معنى لها فى وجه الموت الوشيك.
يضيف «إنه يمكنك استئجار شخص ما لقيادة سيارتك، أو خادم لقضاء أغراضك، أو توظيف قياديين لإدارة أعمالك وكسب المزيد من المال والشهرة؛ ولكن- وبالتأكيد- لا يمكنك استئجار شخص ما، وبأى ثمن، لحمل الألم أو المرض نيابة عنك..يمكن للمرء أن يقتنى أشياء مادية كما يحب، ولكن هناك شيئًا واحدًا لا يمكن العثور عليه عند فقده «الحياة» ….
وسواءً كنا نقود سيارة بقيمة 150.000 دولار أو 15000 دولار؛ الطريق والمسافة التى تُقطع متساوية، وسنصل فى النهاية إلى الوجهة نفسها..إذا كان المنزل الذى نعيش فيه هو 300 متر مربع ، أو 3000 متر مربع ؛ الوحدة هى نفسها ؛ ولن تتحرك أو تنام على مساحة أكثر من بضعة أمتار..».
ثم يصل بنا جوبز إلى حقيقة يتغافل عنها كثير من الناس؛ وهى أن
سعادتك الداخلية الحقيقية لا تأتى من الأشياء المادية التى تملكها، سواء كنت تسافر فى الدرجة الأولي، أو الدرجة الاقتصادية، إذا تحطمت الطائرة، تحطم معها الجميع …وهذا درس بليغ لكل غنى بخيل؛ فماذا تصنع أموالك فى مجتمع بائس لا يعرف للسعادة سبيلاً
يقول جوبز: «لذا، آمل أن تفهم أنه عندما يكون لديك هدف سامٍ فى الحياة، ويكون لك مآثر أسعدت بها الغير، فهذه هى السعادة الحقيقية!
ثم يضع أيدينا على حقائق ساطعة فيقول: «بدلاً من أن تعلم أطفالك أن يكونوا أغنياء؛ علمهم أن يكونوا سعداء؛ فعندما يكبرون سيعرفون قيمة الأشياء، وليس تكلفة الأشياء.
تناول طعامك كدواء، وإلا ستحتاج إلى تناول الدواء كغذاء.
اترك مالك فى الشمس؛ واجلس فى الظل؛ ولا تقصِّر على نفسك وعلى من حولك؛ فالمال جُعِلَ لنحيا به لا لنحيا من أجله.
أحب الناس الذين أرسلهم لك الله، وأحسن إليهم، يومًا ما سيحتاج بعضكم إلى بعض.
إذا كنت تريد أن تعيش ثريًا اذهب وحيدًا، أما إذا كنت تريد أن تعيش سعيدًا، فاذهب مع الآخرين!
فهل يدرك رجال الأعمال والأغنياء عندنا القيمة الحقيقية لرأس المال ووظيفته الاجتماعية، ويسعون لتحقيقها طواعية..وهل توقفوا أمام مراد الله من المال بقوله تعالي:» وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين « (المنافقون: 10).
بمنطق الربح والخسارة فإن الإسراع بإنفاق المال فى وجوه الخير ينفع صاحبه أكثر مما ينفع غيره؛ فمن فوائده الدنيوية أنه سبب لنماء المال وبركته، ودفع البلاء عن صاحبه، وهو من صنائع المعروف التى تقى مصارع السوء، كما ورد فى الحديث الشريف: «صنائع المعروف تقى مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب».
صدقوني..السعادة الحقيقية فى لذة العطاء، أن ترى فرحةً فى عين فقير أو محتاج أو مكروب فرّجت عنه كربة أو ضائقة فذلك من أحب الأعمال إلى الله.