العلاقات بين الدول كلما قامت على ثوابت يحترمها الطرفان كانت ناجحة ومثمرة وقابلة للتطور ولذلك تسعى مصر دائما أن تكون علاقاتها مبنية على ثوابت سياسية ودبلوماسية واضحة، أولها أن تكون علاقة تعاون هدفه التنمية ودعم السلام والاستقرار الذي يسهم في تحقيق آمال الشعوب، وثانيها احترام خصوصية واستقلالية كل دولة لأن الاستقلالية جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية.
وثالثها البحث عن كل ما يمكن أن يعزز التعاون الاقتصادي والتجاري ويفتح أبواب الاستثمارات المتبادلة لدعم النمو في عالم مليء بالصراعات التي تدمر كل فرص التنمية وتفرض على الجميع التعاون من أجل النجاح.
وطوال السنوات الماضية لم نجد من مصر وقيادتها أي خروج أو تجاوز لهذه المبادئ بل حرصًا على التمسك بها وإعلانها كخطوط ومحددات أساسية في التعامل، لا تسعى مصر للإضرار بأحد ولا تبحث عن عداء ولا تدخل في تحالفات لأهداف غير مشروعة أو ضد أحد، بل تسعى دائمًا لدعم كل جهود من شأنها تصفير الخلافات وإنهاء الصراعات والتقريب بين الدول وتحقيق آمال وتطلعات الشعوب في مستقبل أفضل.
الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تركيا تلبية لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تأتي في هذا الاطار، القائم على احترام خصوصية كل دولة وشئونها الداخلية والرغبة الصادقة في فتح صفحة جديدة من العلاقات تطوى الماضي تمامًا، وتقوم على المصالح المتبادلة والتعاون المشترك في كافة المجالات والبناء على قوة وتأثير الدولتين إقليميًا ودوليًا، لأن التعاون المصرى التركي يضمن الاستقرار الإقليمي، وهذا ما تريده مصر وتعمل من أجله على كافة المستويات.
معلوم أن هناك بالفعل قضايا وملفات تفرض التعاون المشترك بين البلدين والتنسيق الدائم وفي مقدمتها الأزمة في غزة والمخطط الإسرائيلي لتصفية القضية، وشبح الحرب الإقليمية الذي أصبح يسيطر على المنطقة والتهديدات التي تحيط بالإقليم ولا يمكن مجابهتها بغير التعاون بين القوى الفاعلة والمؤثرة.
ولا ينكر أحد أن القاهرة وأنقرة عاصمتان لهما ثقل كبير ودورهما محوري وتمتلكان قدرة على القيام بخطوات مهمة في تحقيق الاستقرار والوقوف ضد المخططات الإسرائيلية طالما كان هناك تعاون وتشاور وتنسيق في المواقف.
وهذا ما حدث بالفعل طوال الشهور الماضية، وتتطلب المرحلة القادمة مزيدًا من هذا التعاون وكما قال الرئيس السيسي فإن ما تعيشه المنطقة من أزمات يحتم استمرار التشاور والتعاون بين البلدين، سواء : فيما يخص يخص قضايا الإقليم المضطرب يشكل. كل عام أو القضية الفلسطينية على وجه الخصوص في ظل إصرار حكومة نتنياهو على مواصلة الحرب والسعى لتحقيق الأهداف التي أعلنت عنها وهي تصفية القضية الفلسطينية وهناك دعم غربي لها في ذلك حتى وإن كان بعضه غير معلن لكنه مؤثر في زيادة قدرتها على الوصول إلى هذا الهدف.
ويعلم الجميع أنه لا يمكن إيقاف هذا المخطط الإسرائيلي بالاعتماد على على المنظمات الدولية التي ثبت عجزها والدليل القرارات الأممية التي لم تنفذ، كما لا يمكن أن يتم الاعتماد على تغير في مواقف الغرب وخاصة واشنطن لأن المؤشرات كلها تقول أن التصريحات المتتالية من بایدن ولومه المستمر لتنياهو لا ينم عن موقف حاسم بل على العكس تدعم واشنطن تل أبيب بالسلاح وكل القدرات التي تمكنها من تنفيذ مخططها.
ولا يمكن التعويل كذلك على الغضب الداخلي في إسرائيل ضد حكومة نتنياهو لأنه غضب مؤقت وكثير منه له مصالح سياسية وليس له علاقة بالقضية الفلسطينية.
كل هذا يؤكد أنه بدون موقف واضح ومتماسك من الدول العربية والإسلامية والقوى الإقليمية المؤثرة لن يكون هناك جديد ولن يتوقف المخطط الإسرائيلي.
ومصر منذ البداية لها مواقف واضحة سواء تصريحات كاشفة أو أفعال على الأرض في التصدي للعبث الإسرائيلي ودعم الشعب الفلسطيني وفضح مخطط التهجير والكل أصبح مدركًا للرفض المصرى الحاسم للمخططات الإسرائيلية بل وإن الموقف المصرى هو السبب الأهم في افشال هذا المخطط حتى الآن، ولهذا نجد الاستهداف الإسرائيلي لتشويه مصر من خلال الأكاذيب والإدعاءات الفاسدة.
ولكن هذا الموقف المصرى الثابت والقوى يحتاج دعمًا عربيًا واقليميًا ومن هنا تأتي أهمية التنسيق مع دولة بحجم وتأثير تركيا، وهذا ما تم التأكيد عليه سواء في مباحثات الرئيسين خلال قمة أنقرة أو في البيان المشترك الصادر عن مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى الذي تمت إعادة تشكيله بين البلدين للعمل على تعزيز ودفع التعاون في كافة المجالات.
وارتباطا بهذا المجلس فإن العلاقات الثنائية بين البلدين واحد من الملفات المهمة بين مصر وتركيا لأنها تعكس الرغبة الحقيقية في تطوير شكل وجوهر العلاقة وتعزيز كل أوجهها بما يخدم الشعبين، فما يمكن انجازه من تبادل تجاري واستثمارات مشتركة كبير جدًا نظرًا لإمكانات البلدين الكبيرة، ولتحقيق هذا كان من الضروري النظر في سبل الارتقاء بالعلاقات إلى مرحلة الاستراتيجية وتوطيدها في كل المجالات عبر مجلس تعاون له آلية اجتماع دائمة ضمانا للتطوير المستمر وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه لأن حجم التبادل التجاري بين البلدين والذي يبلغ نحو 7 مليارات دولار لا يجسد أبدا قدرات وامكانات الدولتين ولا بد من زيادته بل مضاعفته والمخطط فعليًا كما أعلن الرئيسان أن يصل خلال الفترة المقبلة إلى نحو 51 مليار دولار كمرحلة أولى كما يتم العمل على زيادة الاستثمارات التركية في مصر في ظل البيئة المؤهلة لاستيعاب كل أنواع الاستثمار وكون مصر مصنفة الآن كأحد أهم المقاصد الاستثمارية، ومن بين ما تضمنه بيان مجلس التعاون الاستراتيجي العمل على تطوير مناخ الاستثمار.
وارتباطًا بهذا يأتي ملف الطاقة الذي لا يحتمل أي صراع بل يتطلب تكاملًا وتعاونًا لصالح الجميع، لأنه ملف المستقبل والذي سيحدد بشكل كبير طبيعة العلاقات بين الدول، ولهذا كان التأكيد من الرئيسين على التعاون في هذا الملف بما يخدم المصالح المشتركة.
إن العلاقات بين الدول لا يمكن أن تدوم على وتيرة واحدة، وإذا كانت السنوات الماضية شهدت تباعدًا بين البلدين لأسباب عديدة فإن الواضح الآن هو الرغبة الجادة في تطويرها إلى مستوى غير مسبوق إدراكًا من البلدين بأهمية التعاون والشراكة لصالح الشعبين وترجمة للعلاقات التاريخية المتجذرة التي تجمع البلدين العريقين وتكمل مئويتها العام القادم وتعكس الإرادة المشتركة لبدء مرحلة جديدة من الصداقة والتعاون.
وما صدر من بيان مشترك بين البلدين يؤكد بوضوح أن السنوات القادمة ستشهد طفرة غير مسبوقة في العلاقات ونقلة نوعية فى التعاون المبنى على أساس واضح وهو المصلحة المتبادلة والتضامن وهذا ما يتضح من 36 بندًا تضمنها البيان وتؤكد كلها على أن الرغبة صادقة في البناء على ما تم من على خطوات وأن تكون العلاقات المصرية التركية نموذ جًا ليس فقط في التعاون الصناعي والسياحي والاستثمارات وزيادة التجارة البينية وصولًا إلي شراكة اقتصادية مميزة ومثمرة وذات نفع للطرفين، وإنما أيضًا نموذج في التشاور السياسي وتنسيق المواقف الدبلوماسية والتعامل مع قضايا الإقليم والملفات المرتبطة بأمن واستقرار المنطقة.
بقينًا نتائج الزيارة إيجابية بل تصلح لأن تكون عنوانًا للتوافق والحرص على توطيد الصداقة وتغليب مبدأ الاحترام المتبادل بين دولتين كبيرتين.