«ذو العَقلِ يَشقى فى النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ فى الشَقاوَةِ يَنعَمُ».
لم يدرك أبو الطيب المتنبى أن هذا البيت من الشعر سيكون بمثابة نظرية فلسفية فى تمايز العقول التى فى رءوس البشر وتنتقل فكرتها من منتدى إلى آخر ومن مناسبة إلى أخرى، فحالة الراحة التى يعيشها الأغبياء والجهلاء هى الوجه الآخر للتعب والإرهاق الذى يعلو وجوه العالمين والعارفين، فالجاهل يهنأ بجهله والعالم يشقى بعلمه، فالإدراك الكامل والحقيقى لكل ما يدور حولك من مشاكل وأزمات وتحديات يثقل كاهلك بما تنوء بحمله الجبال، أما الإدراك السطحى للأمور والتعامل معها بمنطق «وأنا مالى هو أنا هغير الكون» فهذا يساهم فى سرعة ترسيب السلبية بكل أشكالها، والملاحظ ان اصحاب المعرفة والفهم يشقون بمعرفتهم ويمرضون لفهمهم ويموتون بوعيهم ، والعكس بالعكس صحيح، فكلما اطّلعت على دقائق الأمور وفهمت ما بين السطور فلن يعرف قلبك طريق السرور، أما هؤلاء الحمقى والتافهون الذين لا يفرقون بين الظل ولا الحرور فتجدهم يتنقلون بين الموائد آكلين غير مبالين بمن معها ومن عليها، إذا جلست مع أحد العارفين ودار بينكما حديث معمق وجاد ومجرد عما يدور حولكما فى هذا العالم وهذه الدنيا وهذا الكوكب ستخرجان من الجلسة بحالة من القلق والخوف والتوتر، فإذا كان الحديث عن جنون المناخ والتغيرات الحادة الحاصلة والتى نرى آثارها كل لحظة امام أعيننا ستصاب بحالة من الجنون تفوق جنون المناخ نفسه، الفيضانات والأعاصير والزلازل والبراكين وارتفاع درجة حرارة الأرض واتساع ثقب الأوزون واختفاء كل مظاهر التنوع البيولوجى وظهور الأمراض التى ما كنا نسمع عنها ونتيجة كل هذا من تصحر وجفاف وحروب ونزاعات وصراعات ونزوح وهجرات شرعية وغير شرعية تجعل المجتمعات تتحسس هويتها وتبحث عن خرائط ديموجرافيتها المهددة بالتشوه، وإذا تحدثتما عن انهيار النظام العالمى القائم ومظاهر هذا الانهيار فى عجز المؤسسات الدولية عن القيام بالمهام الأساسية التى أقيمت من اجلها، وما يدور الآن من صراع بين الحضارات ومن حوار بين الثقافات وانتظار نتائج هذه الحوارات والصراعات كى تتم اعادة تشكيل العالم وفى هذه المخرجات والنتائج، كل هذه المنمنمات التى تظهر أمامك فى نقاش واعٍ ستجعل عقلك يصاب بشلل رعاش جراء كل هذه التفاصيل والمحددات المرئية والمخفية، وعندما ينتقل الحديث بينكما إلى التكنولوجيا وثورة الذكاء الاصطناعى المذهلة وتسمع وتشاهد نفسك «بشحمك ولحمك وعضمة لسانك وبصمة صوتك» تنطق بكلمات الكفر الوطنى والإلحاد الدينى، عندما تستمع لصوتك أنت وأنت تقول عكس ما تؤمن به وتردده على مسامع الناس، عندما تجد نفسك تجلس فى حانة وسط السكارى وأنت تتناول المشروبات التى لم ترها إلا فى الأفلام الأبيض وأسود، ما هذا العبث التكنولوجى المضلل والذى يجعل العقل فى حالة ترنح تام؟ وإذا انتقل الحديث بينكما عن العلاقات الإنسانية والاجتماعية وما اعتراها من تغيرات حادة أدت إلى فقدان الثقة والتشكك المؤذى إلى التوتر والقلق فبالتأكيد ستخرج من الجلسة أو «القعدة» محملا بطاقة سلبية لا تقوى على حملها، أما إذا جلست مع احد التافهين فسيكون الحديث عن ظاهرة الشورت الأصفر الذى يرتديه كبار السن فى محاولة للفت أنظار الفتيات الصغيرات وتكون المعضلة الأساسية هو هل يمكن تغيير لون الشورت إلى الفوشيا وهل يقبل المجتمع هذا التغيير الحاد؟ والأهم هو ما مدى تأثير لون الشورت الذى يرتديه بعض الرجال وبعض الفتيات فى الساحل الشرير ثم ينتقل الحديث عن سعر الآيس كريم فى الساحل ويتعمق الحديث وصولا إلى مشكلة المكسرات الموجودة فى الآيس كريم واذا كانت فريش أم قديمة؟ وكيف يمكن ضبط أسعار لب التسالى فى أسواق النميمة؟