الحضارة المصرية القديمة من أقدم وأعرق حضارات العالم أجمع، فقد حظيت مصر القديمة بتقدير واحترام العالم القديم.. والحديث، ففى العصر الحديث تتهافت الدول جميعها على اقتناء القطع الفنية والأثرية التى خلفتها تلك الحضارة القديمة الأمر الذى حدث بطرق شرعية وغير شرعية.
وتفتخر دول العالم التى تقتنى بعضا من كنوز الآثار المصرية بهذه القطع وتخصص لها أفخم قاعات العرض وأحدث وسائل الحفظ أو تعرضها فى أهم وأكبر ميادينها لتمتع عين الناظرين إليها، وهناك بعض القطع خرجت من البلاد بطرق غير شرعية نظرً لقيمتها العالية التى لا تخفى حتى عن العين غير «الخبيرة».. وتعتبر المسلة المصرية التى تزين أشهر ميادين فرنسا «ميدان الكونكورد» من أهم قطع الآثار المصرية التى خرجت من مصر بطريقة غير شرعية.
والسؤال الذى يطرح نفسه هو كيف خرجت مسلة «رمسيس الثاني» إلى فرنسا؟
لعل علم المصريات يدين بالكثير لجهود العالم الفرنسى «شامبليون» فقد كان نجاحه فى حل رموز حجر رشيد الذى اكتشفه الضابط «بوشارد» أثناء الحملة الفرنسية على مصر انقلابا تاريخيا جعل من نقوش المعابد المصرية كتابا مفتوحا، وبفضل شامبليون عرف العالم هذه الجذور العريقة لأعظم حضارة والتصق باسمه لقب المصري.
ولقد زار «شامبليون» مصر عام 8281 وعاش فترة فى الأقصر واختار كوخا من اللبن بالقرنة لإقامته كان يحلو له تسميته بالقصر وعاش شهورا فى مقبرة رمسيس الرابع بمدخل جبانة وادى الملوك وقضى أيامه فى الأقصر يسجل نقوش المعابد والمقابر والسراديب ويترجم النقوش الفرعونية الخالدة.
ومن شدة إعجابه بمسلتى معبد الأقصر تلكما التى شيدهما رمسيس الثانى أوصى بنقل إحداها إلى باريس، ووضع الخطة التى تم بها نقلها على «دمث» يطفو على النيل ويرفعه الفيضان إلى البحر ولقد برر بنقل المسلة قائلاً: «انه ينقلها لكى يقف أمامها فى خشوع الفنانين والمبدعين».
ترى لو ظلت هذه المسلة فى خدرها الآمن بجوار شقيقتها الشامخة فى معبد الأقصر هل كانت ستحرك وجدان المفكر الفرنسى «جوستاف فوليير» الذى قال عن مسلة باريس: «ما أشده من أسى تلك التى تعانيه تلك المسلة وهى فريدة هنا فى ميدان الكونكورد فكم تحن إلى نيلها ماذا يدور بخلدها وهى تنظر إلى العربات تروح وتغدو بين يديها بدلاً من العجلات الفرعونية التى كانت تقف تحت قدميها فى الأزمان الغابرة بعد أن ظلت ثلاثة آلاف من السنين تقوم إلى جوار زميلتها».
أما الشاعر الفرنسى «جوتيه» الذى كتب قصيدته الرائعة «حنين بين مسلتين» والتى اقتطف منها: كم يقسو على الملل فى هذا الميدان الوحشي.. أنا المسلة المنتزعة من جذورها.. يرتعد جبينى الذى لوثه الصدأ.. وأخد يتعاودنى الجليد والصقيع والرزاز والمطر، ليتنى أعود ثانية لبلادى وانتصب من جديد إلى جانب شقيقتى الوردية كما يقول على لسان مسلة الأقصر مكملا المناجاة: ليتها تعود شقيقتى الواقفة فى أحد ميادين باريس إذن لكان قربها إيناس لروحي.
لقد كلفتنا زيارة واحدة لشامبليون درة غالية لا تقدر بثمن.. ترى لو لم توافيه المنية بعدها مباشرة كم كانت ستكلفنا رحلاته التالية.