عندما تهدأ العاصفة وتنقشع الكتل الضبابية يمكننا أن نرى بوضوح الخسائر التى وقعت جراء هذه الأعاصير والأنواء، وعندما يتم رفع آثار أى حادثة فى عرض الطريق يمكننا حصر الأرباح والخسائر بمنتهى الدقة، وعندما ترتطم مجموعة من الأكواب والفناجين والأوانى ونسمع أصوات التحطيم والتكسير فلن نستطيع حصر الخسائر أيضا إلا بعد كنس الزجاج المكسور أولا، ومثل هذه الفناجين المرتطمة والتى ربما تتقاذفها بعض الأيادى المختبئة خلف الستار، نرى الصراع المحتدم الآن فى الإقليم والذى اتسع دائرته دون أن ندري، إسرائيل وحماس وايران وحزب الله وجماعة الحوثى وجماعات أخرى فى سوريا والعراق ومناطق أخرى من الإقليم تحولت إلى فناجين متراطمة يحاول كل منها أن يكسر الآخر ويحوله إلى حطام، فى البداية تطايرت الفناجين الصغيرة والضعيفة وتكسرت بسرعة مذهلة وبقيت الأكواب الكبيرة والفناجين الضخمة تتطاحن على أمل أن يقضى كل منها على الآخر ويتسيد المائدة منفردا، إسرائيل قررت القضاء على حماس وحماس قررت أن تقتلع إسرائيل من الأراضى الفلسطينية، وكانت النتيجة ان كلاهما تعرض لشروخ عميقة لكنه لم ينكسر ولم يستطع كسر الآخر، على الصعيد الآخر كانت ايران ومعها حزب الله تتقدم خطوة لاستفزاز إسرائيل وتتراجع خطوتين ارضاء لأمريكا والغرب، جماعة الحوثى أيضا وُضِعت على خط الأزمة وصنعت أزمة جديدة فى مدخل البحر الأحمر أثرت على الملاحة العالمية ومازالت، لكن الصراعات وصلت إلى محطة «النضوج» وبدأت أصوات المدافع المملة تخفت فى مواجهة أصوات الدبلوماسية النشطة فى محاولة البحث عن مخرج يؤدى إلى وقف إطلاق النار، إلى أن يحدث هذا ويحفر طريقه وسط التحديات الصخرية فإننا مطالبون بطرح أفكار جديدة حول هذه الصراعات من خلال قراءة موضوعية للواقع الجديد للمنطقة والذى خلقته الحرب الحالية، فبالتأكيد هناك متغيرات جذرية فى المعادلة الإقليمية يجب أن نرصدها ونتتبعها ونستشرف مساراتها ونضع السيناريوهات النظرية أمام الساسة المنهمكون فى متابعة دوامات الصراع وإدارة الأزمة حتى لا تنزلق المنطقة إلى الانهيار، وهنا أطرح مجموعة من الاسئلة التى تبدو بسيطة لكنها تحتاج اجابات عميقة بعد تأمل تلسكوبى فيما يجرى حولنا، هل إسرائيل قبل السابع من أكتوبر هى نفسها إسرائيل الآن؟ ما هى صورة إسرائيل الحقيقية التى يراها الرأى العام العالمي، هل مازالت صورة الدولة المتقدمة تنمويا وتكنولوجيا وديمقراطيا هى السائدة أم تبدلت إلى صورة الدولة السلطوية الدموية التى ترتكب جرائم حرب أقرتها المحاكم الدولية؟ وماذا عن ايران التى نجحت – حتى الآن – فى تدوير زوايا الصراع مع الغرب ولجمت حزب الله من القيام بعمليات ضخمة تشعل المنطقة وقد تعجز ايران عن إطفائها، هل الانطباعات المختلفة عن ايران ما زالت كما هى ام هناك تغيير فى الصورة الذهنية عن ايران؟ وهل تغيرت الأوزان النسبية لحماس داخل البيت الفلسطينى وهل مازالت السلطة قادرة على انتاج افكار جديدة تتماشى مع المستجدات الحاصلة، وما هو مستقبل حماس داخل قطاع غزة؟ هل مازالت المبادرة العربية سارية المفعول أم تم وأدها على مذبح نتنياهو؟ هل ما زالت الأصوات المنادية بالقومية العربية والمؤيدة للفكر القومى العربى والمصير المشترك موجودة إلى الآن بعد كل هذه الإخفاقات التاريخية؟ وهل ما زال قطار التطبيع يجد قضبانا يسير عليها وسط كل هذا الركام الذى يغلق كل الطرق والمسارات؟ كل ماسبق يحتاج اجابات علمية حتى يمكن رسم مكونات المعادلة الجديدة بمدخلاتها ومخرجاتها التى صنعتها وأقرتها الحرب الأخيرة، نحتاج فكرة جديدة يطرحها المفكرون والمثقفون وتبلورها النقاشات والحوارات المعمقة والموضوعية والواقعية لمحددات الخروج من المأزق الذى صنعته الحرب اولاً ثم التعامل مع واقع جديد افرزته نتائج تلك الحرب ونكمل غدا .