فن إدارة الطاقة
التحكم فى الأسعار .. تقييد الإمدادات.. يؤثران على الاقتصاد الدولى
الطاقة «المتجددة» ستصبح على المدى البعيد أكثر استقراراً
ورقة مساومة إستراتيجية بيد الدول ..وأداة رئيسية للاستقطاب وتشكيل التحالفات
السؤال الحائر دوما على من نلقى اللوم .. السياسة أم الاقتصاد ومن يسبق الآخر ومتى تختل العلاقة بينهما وهل حقيقى أن الاقتصاد فى خدمة السياسة أو العكس هو الصحيح، فلا إدارة ناجحة للاقتصاد بغير تمرس فى السياسة وهما وجهان لعملة واحدة وإذا زاد الأمر فى الحيرة والتساؤل نجد من بعيد الجغرافيا السياسية أو مايسمى بلعنة الجغرافيا ولكن التجارب أمامنا تقول أن الحرب الروسية الأوكرانية والتداعيات الاقتصادية التى جلبتها معها نبهت إلى أمر هام وهو أن هذه الحربا العبثية جاءت لإثبات عدة مسائل، أولها أن هناك حروب هجينة لإثبات من يقود العالم اليوم، وثانيها أن أوكرانيا أصابتها لعنة الجغرافيا فقد كانت فى طريق خط «نورد ستريم 2» ولولاه ماقامت الحرب فأمريكا بمواطنيها ومشاريعها فى الكونجرس لايهمهم أوكرانيا من بعيد أو من قريب ولكن الاهم ألا يرى خط نورد ستريم ٢ النور حتى لا تستفيد روسيا ويكون معها ورقة ضاغطة جديدة على اوروبا بل استخدمت ورقة رابحة فى إشعال النار بفصل أوروبا عن آسيا وهنا أصبح الغاز أداة عسكرية واسعة الانتشار وزادت الأمور تعقيدا بفرض عقوبات على روسيا من الاتحاد الأوروبى الذى أطلق الرصاص على قدميه بدون الغاز الروسى الذى لايستطيع تعويضه حتى ولو كان من أمريكا نفسها التى باعت الغاز المسال لاوروبا بأضعاف سعره وها هى تجر ذيول الخيبة أنها إنصاعت لأوامر الولايات المتحدة فى فرض العقوبات والايغال فيها كنوع من الإفلاس ولا انتصرت أوكرانيا ولا استفاد الاتحاد الأوروبى والمستفيد الوحيد هى الولايات المتحدة الأمريكية وتحول ملف الطاقة بفعل الجغرافيا السياسية إلى سلاح وزادت معه الاستثمارات الدفاعية لكل العالم من أجل حماية ملف الطاقة وهو يجعلنا نقول أننا أمام متحور جديد من الحروب ألا وهو حروب الطاقة.
فى عالم تشكل فيه موارد الطاقة عصب الحياة والصناعة تبرز الصراعات الجيوسياسية كأحد العوامل المؤثرة فى الاستقرار فالطاقة خاصة النفط والغاز ليست مجرد سلع تجارية بل هى أيضا أدوات القوة والنفوذ على الساحة الدولية وسبباً مباشراً للصراعات بين الدول وداخلها سواء كانت اسبابا سياسية أو اقتصادية أو حتي الثقافية تجد طريقها للتأثير المباشر وغير المباشر على اسواق الطاقة العالمية لهذا فالتأثير يتجاوز حدود الدول المعنية ليشمل الاقتصاد العالمى بأسره مما يعيد رسم خرائط السياسة الدولية ويفرض تحديات وفرصاً جديدة وبمنطق آخر فان مسألة الصراعات الجيوسياسية هى من ابرز العوامل المؤثرة فى استقرار وتقلبات أسواق الطاقة العالمية خاصته فيما يتعلق بموارد الطاقة الحيوية كالنفط والغاز الطبيعى وتتداخل هنا قواعد اللعبة وخيوطها بين السياسة والاقتصاد حيث تلعب الصراعات دوراً محورياً فى تشكيل ملامح السياسة الدولية والتوازنات الاقتصادية على مستوى العالم ودعونا ننظر إلى كيف تصبح الطاقة ميداناً للصراع والتنافس الجيوسياسى وكيف تؤثر هذه الصراعات على اسواق الطاقة العالمية وبالتالى على السياسات والتوجهات الدولية.
تقلبات اسعار الطاقة واتساع مناطق الصراعات فى مناطق رئيسية منتجة للنفط والغاز تسبب غالباً اضطرابات فى إمدادات هذه الموارد مما يؤدى إلى تقلبات حادة فى الأسعار عالمياً، وسواء كانت هذه الصراعات عسكرية أو سياسية فإن التأثير يظهر بشكل مباشر على أسواق الطاقة .
لأن إعادة تشكيل السياسات الدولية للدول المستهلكة للطاقة تعتمد وبشكل مباشر وكبير على عملية الاستيراد حيث تجد الدولة نفسها مضطرة لتعزيز العلاقات مع دول اخرى لتأمين إمدادات الطاقة وفى حاله اتساع مناطق الصراع كما هو الحال حالياً تتسابق الدول للبحث عن بدائل سواء من خلال تطوير مصادر الطاقة المتجددة أو عبر مصادر الاستيراد وهذا التوجه لا يؤثر فقط على اسواق الطاقة بل يمكن ان يحدث تغييرات جذرية فى السياسات الاقتصادية والبنية العالمية.
واللافت أن الدول المنتجة للنفط والغاز تستخدم هذه الموارد كأدوات للتأثير فى السياسة الدولية ومن خلال التحكم فى الاسعار أو تقييد الامدادات حيث يمكن لهذه الدول التأثير فى الاقتصاد العالمى وسياسات الدول الأخرى وقد ادت هذه الصراعات الى سؤال هام هى تؤثر او الصراعات تحديداً على البيئة والتحول الطاقى لاشك ان الصراعات التى تؤدى إلى اضطرابات فى إمدادات النفط والغاز تسلط الضوء ايضاً على الحاجة الماسة للتحول نحو مصادر الطاقة المتجددة وهذه التحولات لا ترتبط فقط بالأمن الطاقى بل بالحفاظ على البيئة ومواجهة تغير المناخ .
وفى ظل العالم المعاصر تتجلى الصراعات الجيوسياسية كعامل حاسم فى تشكيل مستقبل أسواق الطاقة العالمية النفط والغاز باعتبارهما محورين رئيسيين لهذه الاسواق ولا يعتبران مجرد موارد طبيعية بل ايضاً أدوات للنفوذ والقوة لذلك الصراعات المتعددة الاشكال تظهر بوضوح الحاجة الملحة لتنويع مصادر الطاقة والتوجه نحو الاستدامة والمصادر المتجددة ليس فقط كحل للتحديات البيئية بل ايضاً كاستراتيجية لتعزيز أمن الطاقة العالمى والاستقرار السياسى بينما تستمر الدول فى مواجهة هذه التحديات يبقى السؤال مفتوحاً حول كيفية تشكل سياستها وعلاقاتها الدولية لضمان مستقبل اكثر استقراراً واستدامة لأسواق الطاقة العالمية وتبقى الصراعات الجيوسياسية مثالاً حياً ذا تأثير خطير على اسواق الطاقة وعلى الترابط بين السياسة والاقتصاد فى النظام الدولى لذلك استوجب الامر اعادة النظر فى الحاجة الى استقرار امدادات الطاقة والسياسات الخارجية والبحث عن سبل جديدة لضمان الأمن الطاقى سواء من خلال التحالفات الجديدة او تطوير مصادر الطاقة البديلة.
الخرائط الجديدة
يقول روبرت كابلان (أحد متخصصى الجغرافيا السياسية)فى كتابه «انتقام الجغرافيا» ان الجغرافيا السياسية هى صناعة على الأغلب لأن الخرائط أو الجغرافيا الطبيعية هى ثابتة موجودة بالأصل بينما تبقى المواقف والتصريحات متغيرة و يقصد هنا السياسية وبالتالى هناك نظام المؤءامات ولعل ذلك ما أعطى من وجهة نظرنا تلك الأهمية للجغرافيا السياسية المتصاعدة حالياً مما جعل المحللين يستخدمون الجغرافيا السياسية فى صناعة نماذج لتفسير قضايا خارج نطاق الجغرافيا السياسية كالقضايا الاقتصادية والتوازنات العسكرية لذلك كان لزاما علينا ان ننظر الى الخرائط الجديدة بعد عسكرة ملف الطاقة ونعطيها أهمية حول الدوافع والمحركات والصراعات الجارية اليوم على خطوط طول وعرض خريطة العالم من شرقه الى غربه وبالتالى تعطى لنا مفاتيح وادوات لما سيحدث عالمياً ومستقبلاً ولا يفوتنا فى هذا الحديث أن نسرد امتلاك السلاح النووى كمصدر للقوة حيث يعتبر سعى دولة لامتلاك سلاح نووى خارج الدول الكبرى فى النادى النووى الصغير والقائم فعلياً بمثابة مبرر أى رادع لشن حروب شاملة فى اى مكان فى العالم ووفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام فإن هناك تسعة دول فقط حول العالم تمتلك رؤوس نووية فى الوقت الراهن منها خمس دول تمتلك هذه الرؤوس بشكل شرعى وهى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الامن وهى روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين اضافه إلى دول اخرى ثبت امتلاكها للسلاح النووى وهى باكستان والهند وكوريا الشمالية واخيراً اسرائيل التى ترفض اعترافا بامتلاكها رؤوس نووية وهناك دول تستضيف رؤوساً نووية على ارضها بحكم عضويتها فى حلف الناتو وهى المانيا وايطاليا وهولندا وتركيا وبلجيكا وتتصدر روسيا هذا المضمار عالمياً بما لديها من الرؤوس النووية 750/ 8000 رأس نووى وهى تنشر منها قرابة 1600 رأس فقط فى حين تليها الولايات المتحدة بحوالى 7200 رأس نووية تنشر منها قرابة ألفى رأس فى حين يعتقد ان اسرائيل لديهما قرابة 80 من الرؤوس النووية أما كوريا الشمالية التى يستجلب برنامجها النووى الكثير عالمياً فى الوقت الراهن – ولذلك هى لديها أفضل الرؤوس النووية بالرغم من أن عدد صواريخها او رؤوسها أقل عدداً إلا أن رأس نووى واحدة فعلياً تستطيع قلب العالم رأس على عقب وهى الدولة الوحيدة المعادية للولايات المتحدة الامريكية حليف جارتها كوريا الجنوبية وهنا تنطبق عبارة عسكرة ملف الطاقة وبصورة صعبة .
ولو نظرنا إلى أطر الصراع فى الشرق الوسط نجد أن السباق حول موارد الطاقة موجودة فى قلب هذا الصراع وتضعه فى سياقه الجيوسياسى الواسع ويجعلنا نقول ان التوتر الراهن ليس مرشحاً للاحتواء سريعاً او قريباً وان الأطراف الرئيسية لن تتنازل عن مصالحها الحيوية وستستمر فى التعبئة والتصعيد السياسى ومع ذلك لن يتطور الى المواجهة العسكرية المباشرة وسيتبقى غالبية الاطراف وفق السيناريو المرجح هو الوصول الى صفقات حتى لو لم تصل لتسويات دائمة وشاملة، لذلك كان هناك حرص من مصر على ترسيم حدودها البحرية لمنع خلط الأوراق لان هناك اعادة تموضع لدول الصراع الاقليمية والدولية لكسب الأوراق وخلق وقائع على الأرض .
إن الصراع على الطاقة فى الشرق الأوسط ليس مصدر للتوتر فقط ولكنه المحفز الاساسى لزيادة توتر صراعاته الممتدة منذ عقود وتبين وجه الحقيقة فى مسالة ليبيا وكيف صارت الطاقة فى الازمه الليبية تسفرعن وجه واحد من وجوه لعبة النفوذ الجيوسياسى فى منطقة حوض المتوسط الاوسع وقد شكل اكتشاف وجود الغاز الطبيعى فى هذه المنطقة الآمنة محوراً للتعاون والتنافس ومنحت الاحتياطيات بلدان المنطقة امل فى تحقيق اكتفائها الذاتى إلى جانب احتمالات انخراطها فى اعمال تصدير مربحة للغاز.
الحرب الروسية الأوكرانية
شكلت هذه الحرب الهجينة منعطفاً معضلياً بشأن اعاده النظر لأهمية وخطورة ملف الطاقة عموماً وعلى اثر الحرب الروسية الاوكرانية حاولت الولايات المتحدة فصل اوروبا عن آسيا وبحثت روسيا عن شركاء جدد على أثر العقوبات التى فرضها الاتحاد الاوروبى على روسيا وتنامى نفوذ الاوبك بلس وفرضت سيطرتها فى حجم المعروض من النفط العالمى ومن هنا نقول ان الهواجس الاستراتيجية للدول حول الطاقة لا سيما السعى الحقيقى على الاستقلالية فى الطاقة ولذلك يتطور الصراعات وتتحول لصراعات عسكرية كمبعث رئيسى للسيطرة على مناطق الطاقة الاستراتيجية كذلك السيطرة على الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الطاقة البديلة حتى الصراع السيبرانى للاستحواذ على تقنيات وأسرار الطاقة العادية والبديلة وهنا اصبحت الطاقة ورقة مساومة استراتيجية بيد الدول وأداة رئيسية للاستقطاب وتشكيل تحالفات استراتيجية وانفكاك اخرى وتاجيج صراعات داخلية وتنافس ظاهرة المليشيات غير النظامية فقد كان من مهام مجموعة فاجنر مثلا الاستحواذ على موارد افريقيا والسطو عليها لكن مع ظهور صراعات الطاقة تغيرت المعادلة تمامًا وزادت المخططات.
لاشك ان هناك ابعاد جيوسياسية للصراع على الغاز والنفط فى الشرق الاوسط حولت الصراع على ثروات البحر المتوسط إلى مادة ملتهبة تزيد من اسباب النزاعات والخلاف على المصالح من الصراع المائى والنفطى قديم العهد بين لبنان وإسرائيل مثلاً وحقل كاريش إلى الصراع المتفجر حديثاً بين تركيا واليونان وقبرص من الجانب الأخر وهناك مصالح متشابكة فى المنطقة واطراف كبيرة وقد قدرت هيئة المسح الجيولوجى الامريكية ان احتياطيات الغاز الكامنة فى المتوسط من 340 إلى 360 تريليون قدم مكعب وقد لا تكون كبيرة بالقدر الكافى ولكن من يتصارعون فى هذا الملف يريدون أن تظل المنطقة فى هذا الصراع الدائم حتى لاتكتفى أو تصدر أو تتطور وهنا نقول إن بعض الدول حاولت المناورة ومن هنا سعت الدول إلى انشاء منتدى غاز شرق المتوسط .
ولقد شكل الصراع العربى الإسرائيلى أولى خطوات الصراع الجيوسياسى لغاز شرق المتوسط حيث منحت السلطة الفلسطينية فى 1999 عقدا لاكتشاف وانتاج الغاز فى بحر غزة لشركة بريتش غاز وشركائها فى حفر حقل غزة سنة 2000 وهو حقل مارين بإحتياطى غاز محدود 1.4 تريليون قدم مكعبة ورغم مرور عقدين لايزال هذا الحقل دون تطوير واحتكرت اسرائيل توريد الغاز للضفة الغربية والوقود بالأسعار والكميات التى تحددها مع تزويد غزة بالأسعار المتقلبة.
وهنا يأتى الحديث عن ترسيم الحدود البحرية للمناطق الاقتصادية الخالصة ما بين دول الجوار مع رفض لبنان وسوريا ترسيم الحدود البحرية وكذلك مشكلة اسرائيل مع لبنان وتحركات قبرص واتفاقها مع اسرائيل إلى ترسيم النقاط الجنوبية.
ومن هنا نقول ان صناع القرار فى مختلف دول العالم تكون الطاقة بالنسبة لهم محرك هام للشئون الخارجية، وتاريخياً كان التقاطع بين الجغرافيا السياسية والطاقة وقد يكون الصراع حول النفط او الغاز والان اصبحت الطاقة المتجددة لها تأثير على الجغرافيا السياسية.
على المدى الطويل تشير الترجيحات إلى أن الطاقة المتجددة ستصبح على المدى البعيد اكثر استقرار واماناً وعدلاً مقارنة بالوقود الأحفورى ومع اعادة رسم طرق تجارة الطاقة الجديدة سيكون شكل الخريطة الجيوسياسية مختلفاً ففى العالم الجديد الذى يموج بقوى تدعم الطاقة الجديدة ستكون القوى المهيمنة أقل قدرة فى ممارسة نفوذها التقليدية والتحكم فى البحار والمحيطات والمضايق وستضائل عندها دور بعض المنظمات كالاوبك والاوبك بلس من وجهة نظرنا على المدى البعيد فامام العالم مدة طويلة للاستغناء عن الغاز والنفط ومن هنا نرى ان (دبلوماسية البنية التحتية) عاملاً مهماً فى مسألة الجغرافيا السياسية التى تسبب القلق وعدم اليقين وتأتى أدوار اخرى للطاقة المتجددة كأداة من ادوات السياسة الخارجية وهو ما تفعله مصر بمشروعاتها هو ما يعرف حاليا باسم فن إدارة الطاقة والذى يعتمد على توزيع وتوسيع أطر الطاقة المتجددة لتعويض الاهمية الجيو استراتيجية للنفط والغاز كأدوات للسياسة الخارجية.
فأما تكون الجغرافيا السياسية نعمة ونفوذ وعليها قوة الطاقة أو تكون لعنة الجغرافيا أو انتقام الجغرافيا ليظل هناك عسكرة أساسية لأهم ملف اقتصادى يمثل أساس اللعبة الدولية الان وهو ملف الطاقة.