كانت عملية بسيطة يجريها الطبيب الشهير كل يوم لعشرات المرضى ويخرجون ويمارسون حياتهم بلا أدنى مشكلة.. وهو المتخصص فى إجراء مثل هذه العمليات.. لكن هل يمنع العلم والطب من أن يقول القدر كلمته فى التوقيت المكتوب، حيث لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون؟!.. دخل على قدميه وخرج محمولاً على «النقالة».. نهاية درامية لمخرج كبير عاش للسينما، ولما اضطرته الظروف للعمل فى التليفزيون، فعلها مثل غيره ولسان حاله يقول:
السينما مثل الكتاب، يعيش العمر كله.. والتليفزيون مثل الجريدة عندما يصدر العدد الجديد يصبح القديم من الذكريات، وكان يؤمن أن مكاسب السينما يجب أن تدور فى صناعتها، هكذا يفعل النجار والبقال والميكانيكي، يأخذ من مهنته ويعطيها ويندهش عندما يجد بعض زملاء الفن يصبحون من أصحاب المطاعم وصالونات الحلاقة والمصانع، وفى مشواره الذى يصل إلى 55 فيلماً بتوقيعه، هناك عشرات اشتغلها كمساعد، أبرزها فيلم «الأرض» مع يوسف شاهين.
مخرجنا ينتمى إلى عائلة جمعت بين الفن والرياضة وتحديداً كرة القدم، أولاد عمه صالح وطارق وعبدالوهاب سليم وأبناء أولاد عمه هشام والموسيقار عمر سليم وابنته جالا، التى كانت تمضى على أسلوبه، لا تعمل إلا ما يعجبها مهما كانت الخسارة المادية، فكثيراً ما صاح فى مكان التصوير «فركش» والعمل من إنتاجه وتكلفة المعدات والطاقم الفنى على حسابه، وكرمه مع السينما وعشقه لها، كان يمتد إلى حياته الخاصة.. وكيف لا، وهو ابن أستاذ الأنف والاذن بقصر العينى ووالدته تركية الجذور، التى كانت تفتح بيتها للجميع.. ورغم معاندة ظروفه المالية له فى فترة من الفترات، لرغبته فى إنتاج الأفلام التى يحلم بها، إلا أنه ظل على حالة الكرم حتى آخر جنيه فى جيبه.. وقد رأيت بعينى كيف أن الكريم لا يضام وقد شيعه إلى مثواه المئات فى صلاة الجمعة بأحد مساجد العجوزة، وحمل نعشه إلى مثواه الأخير القدير الخلوق حسن حسني، الذى كان قد ارتبط بطليقته السيدة المحترمة ماجدة بعد انفصالها عنه، وهى أم ابنه مدير التصوير مصطفى وابنته إنجي، وقد احتضنهما حسنى مع أولاده بكل حب وإنسانية.
من التاريخ إلى السينما
دراسته للتاريخ جعلته يقرأ الأحداث من حوله جيداً.. وقد تشرفت بالعمل معه فى فيلمين من تأليفى «لصوص خمس نجوم» و«ضربة جزاء».. وكان يناقش كل مشهد كما لو كان فيلماً قائماً بذاته.. وله الفضل الأكبر فى احترافى كسيناريست، ثم فى إصدارى لـ 55 كتاباً فى هذا المجال وأنا خريج الهندسة، ونصائحه أيضا كصحفى فى التعامل مع الوسط الفني.. غيرت مسارى وجعلتنى أفصل بين الشخصى والعام.. واعترف بالخطأ واعتذر عنه فى شجاعة، وهو نفسه أعلن عن اسماء بعض أفلام صنعها واعتبرها ساقطة، وإن كان بعضها قد حقق إيرادات عالية.. وهو أمر نادر فى المجال الفني، حيث الغالبية تعتبر أعمالها كلها ناجحة، حتى ان نجمة مثل نادية الجندى كانت تقسم فى وقت من الأوقات وتقول: وحياة نجاح مسلسلى، فمخرجنا الذى ينتمى إلى الدفعة الأولى من معهد السينما مع حسين فهمى وسعيد مرزوق وعلى عبدالخالق، حصل على أول جائزة من ألمانيا عن فيلمه «حياة جديدة» الوثائقي.. ثم كان الانفجار المدوى مع فيلمه الأول «ليل وقضبان»، الذى كتب له السيناريو مصطفى محرم شريكه وصديقه فى أكثر من 19 فيلماً، وخصمه الكروى اللدود الزملكاوى وهو من مجانين الأهلى وكان من أشباله وحرس مرماه فى عهد عادل هيكل وعبدالجليل، ثم انشغل بالفن بعد ليسانس التاريخ ودرس فى أمريكا 4 سنوات ورفض الاستمرار هناك والعمل فى هوليوود، وعاد يقدم روائعه «الشريدة، سعد اليتيم، الشيطان يعظ، اغتيال مدرسة، المجهول، مع سبق الإصرار، لا تسألنى من أنا، امرأة عاشقة، قانون إيكا، بستان الدم، الراقصة والطبال، العشق والدم، امرأة مطلقة، لايزال التحقيق مستمراً».
وأذكر هنا أن فيلم «المجهول» الذى لعبت بطولته سناء جميل ونجلاء فتحى وعادل أدهم وعزت العلايلي، قد تم تصوير 90 ٪ من مشاهده فى كندا وأنفق عليه كل ما يملك، وهو الفيلم العربى الوحيد الذى تم تقديمه فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الأولي، بعد أن أخذ الصفة الدولية وأصبح تحت رعاية وزارة الثقافة، وكان تابعاً لجمعية نقاد وكتاب السينما وقت أن كان يرأسها الصحفى والمؤرخ والأثرى كمال الملاخ، وقد انبهر به ضيوف المهرجان الأجانب.
أحب شادية
فى كل مكان وبمناسبة أو بدون، كان يعترف بفضل شادية عليه وعلى أبناء جيله، تساندهم وتدخل وهى فى قمة مجدها إلى الاستديو تلميذة والمخرج هو الأستاذ، تنفذ تعليماته بكل رضا، وإذا كان هناك من ملاحظة تأخذه جانباً لكى تهمس إليه بها.
ومن فرط حبه واحترامه لها، كاد يخسر زميل دفعته حسين فهمى عندما تأخر أكثر من اللازم عن ميعاد التصوير فى مشاهد أمام شادية، وظل يخاصمه لسنوات.
وقد عمل مع معظم نجوم مصر وغير مسار نبيلة عبيد ووضعها فى الصف الأول، بعد فيلم «الشريدة»، ثم «الراقصة والطبال» و»اغتيال مدرسة».
الوحيد الذى لم يعمل معه عادل إمام.. وفى ذلك قصة كنت شاهداً عليها، عندما كنا نجهز لأفيش فيلم «ضربة جزاء» الذى قمت بتأليفه، ورأى الأستاذ أنه يحقق به حلماً قديماً راوده فى فيلم كوميدى داخل ملاعب وكواليس كرة القدم، واقترحت عليه أن يرسم الفنان الكبير مصطفى حسين الأفيش، وذهبنا إليه فى مطعم يمتلكه بالدقي، وكان عادل إمام يسكن أعلى هذا المطعم، وبعد الكلام والمناقشة والسحور فى ليلة رمضانية، وجدت عادل يلعب الطاولة فى المقهى أمام المطعم مع شلة أصدقاء، واتجهت نحوه أسلم عليه، ولاحظت أن أشرف لا يريد ذلك واتجه إلى السيارة ينتظرنى فيها لكى يوصلني، وبعد أن سلمت عدت إليه، وعرفت منه أنه يعتبر عادل من المغرورين، وانتهت الحكاية حتى وصلنا إلى أيام ثورة الضحك التى قادها هنيدى مع السقا وحلمى ورمزى ولطفى وعلاء ولى الدين، واعتبرها البعض علامة على نهاية عصر عادل إمام.. وذات ليلة وجدت اتصالاً تليفونياً من المخرج الكبير يطلب منى الحضور فوراً إلى شقته بالدقي، ولم يكشف لى عن السبب وكان قد تعافى من أزمة صحية لازمته لأكثر من أسبوعين.. وذهبت على أحر من الجمر لأعرف ماذا يخفى عني.. وكانت المفاجأة أن عادل بمجرد أن عرف بمرضه وأزمته المالية، حضر إليه دون سابق ميعاد وعرض عليه أن يعالجه فى الخارج وأن يسدد كل ديونه.. وأراد أن يرد له الجميل بفيلم كوميدى يقول من خلاله إن عادل هو النجم الذى لم يتكرر وقلب الكثير من الموازين فى عالم السينما والمسرح والتليفزيون.
وقد رشحنى لكتابة هذا العمل، ومن فكرة بسيطة جرت أحداثها فى أمريكا، نسجت أحداث الفيلم الذى كان عنوانه «أحبابنا يا عين» وذهبنا إلى الاسكندرية فى معسكر عمل حتى انتهيت من كتابة السيناريو وطلب منى عدم الحديث عنه نهائياً لأحد، حتى يتواصل مع عادل إمام.. لكنه بدلاً من ذلك، تواصل مع عادل إمام الطبيب لكى يكون فى عيادته مشهد الختام.. يا سبحان الله.
عاش مخرجنا الكبير للفن ولتشجيع النادى الأهلى وتبادل المناوشات مع مصطفى محرم.. يفتح قلبه وبيته وجيبه للجميع.. وللأسف أقل القليل هم من ظهروا معه وخلفه فى أزمته.. بل زاد على ذلك أن من عاشوا على خيره وفتح لهم أبواب الشهرة والفلوس، تنكروا له ولأفضاله عليهم.. على عكس ما جرى مع عادل إمام، الذى لم يعرف بالمفاجأة التى كان يعدها له، إلا فى شادر عزاء المخرج الكبير أشرف فهمي، أحد رموز السينما المصرية وصناعها، وهو الطفل الكبير بقلبه الأبيض الذى عاش لغيره أكثر مما عاش لنفسه.
الطفل الكبير
من السهل أن يغضب فى ثانية.. لكنه سرعان ما يصفو كطفل برئ، ويتعامل مع الشخص فنياً وإن اختلف معه لأسباب إنسانية.. فقد رأيته يتعاون مع الموسيقار الكبير عمر خيرت فى موسيقى فيلم «لصوص خمس نجوم» وهو طليق ابنته جالا، وكان منفصلاً عنها.. يعتز بالسينما، لكنه يقدم التهنئة لأصحاب المسلسل الناجح.. ويحب زملاء المهنة، خاصة سعيد مرزوق وعلى عبدالخالق ومن سبقوه، خاصة صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وعاطف سالم وشادى عبدالسلام العبقرى وعزالدين ذوالفقار الذى لم يأخذ حظه كما يليق به.. وهو ما جرى مع أشرف نفسه، فلم تكن له شلة أو اتجاهات سياسية يستظل بها.. فقد عاش لفنه ومات وهو يتنفس السينما، ويتمنى لها أن تكون فى القمة بما يليق باسم مصر.. وهى من أوائل البلاد التى عرفت هذا الفن قبل غيرها من عشرات الدول.
واستدل الستار عموما باسم أشرف فهمى 25 أغسطس 1939/25 يناير 2001.