قبل سنوات استضافنى صديق شاء حظه العثر أن يصبح وزيرا لامعا فى إحدى الحكومات المصرية.. فالوزارة ـ كما اعرفها ويعرفها هو ـ مسئولية ومشقة وعمل متصل ومعاناة.. الوزير يحمل ـ أو المفروض أن يحمل ـ هموم شعب بأكمله فى القطاع الذى يتولى مسئوليته.. مطالب بترجمة طموح وطن.. مطالب بتحقيق آمال وتطلعات قد لا يملك أدوات تحقيقها.. يعتقد البعض انه يحمل العصا السحرية القادرة على تحقيق كل شيء.. مطالب بالاستسلام لقائمة طويلة من القيود البروتوكولية.. مقيد فى حركاته ـ والحديث هنا عن الوزير بالمفهوم العربى العام أو الشائع.. وباختصار مطالب أن يصبح مثل صديقى الذى تخلى عن حياته لصالح العمل العام.. غابت ابتسامته المشرقة عن وجهه.. سبق عمره بسنوات.. تنازل عن غير إرادة عن الكثير من الارتباطات والالتزامات الاجتماعية التى كان يحبها ويستمتع بها.. أصبح متجهما مهموماً مشغولاً ساهما متوتراً قلقاً.. فالمهام صعبة والحساب عسير والإعلام لا يرحم.
كانت دعوة مفاجئة وغير متوقعة.. اتصل بى هاتفياً طالباً زيارته فى منزله لأول مرة منذ سنوات طويلة.. قال بلهجة الوزير الذى يأمر فيطاع.. اليوم سنتناول العشاء معاً.. لن اقبل أى اعتذار.. انتظرك.. وانهى المكالمة.
على مائدة العشاء بدأنا حديثا مختلفاً.. لا علاقة له بالوزارة أو بالعمل الإعلامي.. حديث الذكريات وحكايات الزمن الجميل.. زمن الانطلاق والتحرر من القيود والأعباء التى لا تحتمل.. وفجأة استدعى الخادم طالبا ماء لكى يشرب .. كان الطلب غريباً.. فالسفرة عليها عدة أكواب فاخرة ممتلئة بماء مثلج يكفى لرى ظمأ عشرة أشخاص.. وبسرعة فائقة انتقلت من حيرة الطلب إلى دهشة الإجابة.. فقد احضر الخادم «قلة» قناوى .. القلل القناوى نسبة إلى قنا فى أقصى صعيد مصر والتى تقوم بتصنيع أفضل أنواع القلل.. وللأجيال الجديدة التى لا تعرفها أقول إنها وعاء أو إناء فخارى يستخدم فى تبريد الماء بشكل طبيعي.. وهى ثلاجة البسطاء.. ينضح الماء من مسامها وينتج عن تبخره برودة معتدلة.. وقد اختفت تقريبا.. ولم نعد نشاهدها فى المدن إلا على عربات باعة الترمس والتسالى على شاطئ النيل فى القاهرة والبحر فى الإسكندرية.
كان مشهداً غريباً أو غير متوقع.. صديقى الوزير رفع «القلة» عالياً.. آمالها قليلاً لينساب الماء منها إلى فمه المفتوح.. كان يشرب باستمتاع شديد.. قال بعد أن لاحظ دهشتي.. أنت افضل من أولادى وزوجتي.. فهم لا يكتفون بالدهشة بل هم تجاوزوها منذ فترة طويلة أو استبدلوها بالاستنكار الذى يتكرر مع كل مرة استخدم فيها القلة بدلا من الماء المبرد فى الثلاجة فى الأكواب الفاخرة.. فالقلة ليست وزارية أو هى لا تتناسب مع الوضع الوزاري.. قال صديقى الوزير انه لا يرتوى إلا إذا شرب من القلة وبهذه الطريقة.. وانه أصبح لا يستطيع ممارسة هذه المتعة أو هذه الحالة من حالات العودة إلى طبيعته الحقيقية إلا فى موسم الصيف عندما يسافر الأولاد إلى المصيف.. قال إن الوزارة أو المنصب الوزارى انعكس على كل شيء فى حياته حتى على طريقة شرب الماء.. قال: هل تعرف ما هى أمنيتى الأن.. أن البس جلبابا فضفاضا.. و«شبشب» مريحا.. وأتوجه إلى كورنيش النيل.. «اقزقز» اللب و أتناول الترمس المملح الغارق فى عصير الليمون ومسحوق الكمون.. أكسر إحساسى بالجوع بالتهام «كوز» ذرة.. اجلس على سور الكورنيش أتأمل المارة.. اضحك مع ضحكاتهم.. قال وقد كست وجهه ملامح حزن حاول أن يخفيها.. حتى الأحلام البسيطة ليست من حق معالى الوزير..!