ثمة كنوز فكرية يمتلأ بها تراثنا الفكرى والأدبى المستنير فى مواجهة ظلامية الفكر الإخوانى والداعشى قديمه وحديثه ومن بين هذا التراث الفكرى الجميل ما كان قد كتبه أديب مصر الكبير توفيق الحكيم قبل ما يزيد على السبعين عاما وأسماه بنظرية «التعادلية» وجعل منها جوهر فلسفته ونظرته للحياة والدين والبشر.. وهى نظرية جعلت من الفيلسوف ذكى نجيب محمود يصفها فى دراسة له عنها نشرت فى مجلة الهلال فبراير 1968 بـ «قرأت كتاب التعادلية لتوفيق الحكيم فخيل الى وأنا ماض فى صفحاته.. أننى إنما أستمع إلى فيلسوف من فلاسفة اليونان الاقدمين يتكلم العربية» ثم يقول فى نهاية مقاله «لن نذكر الفلسفة العربية بعد اليوم إلا وفى أذهاننا فكرة التعادلية التى بسطها أديبنا الحكيم» فماذا تعنى «التعادلية» عند توفيق الحكيم.. وكيف هى حين ربطها بـ»الإسلام».. وكيف فضحت وعرت الغلو والتطرف فى فهم الدين وفى التعامل مع قضايا الحياة والكون.. مبكراً؟
>>>
أولاً: وباختصار فقد عنى «الحكيم» بالتعادلية بوجه عام: وسطية الفكر ووسطية الدين ورحابة عدله وسماحته على النقيض مما ذهب اليه الدواعش القدامى «الإخوان» والدواعش الجدد «جماعات الارهاب المتمسح زيفا بالدين».. وهو فى كتبه كلها وفى كتابه الفذ تحديدا «التعادلية» يوجز فلسفته وفكره بأن ثمة وجوه لـ «التعادلية التى ترفض التشدد والغلو» فتعادلية الكون – تعنى لديه المحافظة على كل ما أوجده الخالق، فلا طغيان لموجود على موجود أوصى الله فى قرآنه بعدم الغلو والإسراف، وبالعدل، لعدم الإخلال بالتعادل الضرورى لتوازن عناصر البقاء: من أضخم الكواكب إلى أصغر الخلايا.
ثانياً: يرى توفيق الحكيم فى فلسفته «التعادلية» أن الله لا يلغى وجود ما أوجده، ولكن يغير صفة الوجود، وما نسميه الموت ليس إلغاء لوجود، بل تغيير صفته، ونقله من وجود دنيوى إلى وجود أخروي.. وما سمى الناسخ والمنسوخ فى القرآن ليس الإلغاء، ولكن وقف التنفيذ لحكمة وظروف.. لأن من غير المعقول واللائق الزعم بأن الله يغير إرادته كما يفعل البشر العاجز.
والإسلام – كما يذهب الحكيم – صالح لكل زمان ومكان: والمقصود أن تفسير القرآن ليس واحداً، بل انه متعدد بتعدد الزمان والمكان: فالنص واحد والتفسير متعدد، ولكل زمان دولة ورجال وتفسير، والسكون متحرك فى الزمان والمكان، وكذلك الإسلام، والانسان متحرك فى مراحل العمر، لا جمود او وقوف فى زمن واحد أو وضع ثابت. «وهذا طبعا على النقيض تماما من فهم الإخوان والدواعش للدين!».
الله وحده الثابت – كما يقول الحكيم – وفى الإنسان شيء ثابت وهو المتصل بالله.. أما المتصل بالدنيا فهو القابل للتغيير مثلها.
ثالثاً: يرى توفيق الحكيم فى «التعادلية» أن القرآن أكد على أن نبى الإسلام بشر يوحى إليه، فهو إذن محكوم ببشريته، إلا فيما نزل به وحي، فهو محكوم بألوهية التنزيل، ولأن النبى بشر، وقد أراد الله أن يكون كذلك حتى يخالط البشر فى مجتمعهم ويعرضوا عليه مشكلاتهم وقضايا مجتمعاتهم، ويشير عليهم بالحلول التى يراها ويتلقى فيها التأييد أو التعديل من الله حتى جاء جانب كبير من القرآن متصلا بحياة الإنسان ومجتمعه وخاصة المجتمع فى زمانه ولم يصدق كثير من الناس أن النبى بشر مثلهم يمكن أن يموت، إلى أن صاح فيهم العباس قائلاً: إنه ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً: أحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعى غنم يتبع بها رؤوس الجبال بأنصب ولا أدأب من رسول الله فيكم.
رابعاً: حرية البشر فى «تعادلية الحكيم» مقدسة على نقيض ما يقول تاريخ ودعاوى وتجارب الإخوان والدواعش الجدد وذلك لأن الإسلام – وفقا للحكيم – ترك للإنسان حرية الرأى والتصرف فيما يراه نافعاً له ولمجتمعه، وتبعاً لحسن استخدام عقله الذى خلقه الله له، وحثه على استعماله ليدرك به عظمة الخالق فى خلقه، ويتابع به حركة الحياة فى الدنيا ويبعد عنه الجمود الذى يؤدى إلى ضعف نشاطه الفكري، فلا يقوى على تغيير ما بنفسه حتى يساعده الله على ما فيه خيره، مصداقاً لما قاله تعالى فى قرآنه الكريم: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إذن تغيير المجتمع والإنسان وبناء الأمة فى وجودها على الأرض ووجودها فى السماء، ورسم الطريق إلى الوجودين هو واجب الفلسفة الإسلامية كما ينتهى توفيق الحكيم فى رائعته «التعادلية والإسلام».
>>>
< هذه خلاصة رؤية توفيق الحكيم فى «التعادلية» والتى نشرها قبل أكثر من سبعين عاما وهى الرؤية التى لا يزال جوهرها فعالا ومؤثراً والتى رفضها الغلاة من «الإخوان» والدواعش الجدد لأنها تحترم العقل وحرية الإنسان والنهضة.. وهم لا يريدون العقل والحرية.. هم يريدون قطيعا يحكم.. وفوضى فى المجتمعات تهدم ولا تبني..لذلك فشلوا لأنهم لم يكونوا فى دعاويهم فقط ضد العقل والإنسان والنهضة بل ضد الإسلام ذاته!