نفر أم المصريين.
واحد يا حضرات والميكروباص يقوم.
جاء الراكب المنتظر وعلى وجهه آثار الحر والرطوبة.. يكاد يختنق من العرق.. يريد العودة بسرعة إلى منزله.. يستعيد توازنه تحت المروحة التى لا تتوقف عن الدوران والضجيج.
ظهر السائق مرتديا »تى شيرت« ممسكا بسيجارة أشعلها منذ لحظات.. مبتسما.. صافى المزاج.. الحمد لله الخير كثير.. هذه هى الدورة السادسة للميكروباص.. عبر عن الرضا بنفحة مضاعفة وصاحبنا المنادي.. مودعا متمنيا له وقتا سعيدا.
نظر المنادى حوله.. مفتقدا صديقا له.. يعمل فى سوبر ماركت قريب تعودا على الذهاب سيرا إلى سرادقات العزاء وقاعات المناسبات حول المنطقة ومعظمها من المستوى الاجتماعى الرفيع.. يرشدها صوت المقرئ أو الواعظ فى الميكروفون.. يسرعان الخطى حت لا يصلا متأخرين.. الوقت ثمين جدا.. يقيسانه بعدد المرات التى يؤديها المقرئ.. ومعها مرات شرب القهوة.. التى يمر بها شباب يرتدون ملابس المناسبات.. ويتبارون فى ارضاء المعزين بفناجيل القهوة والمياه المعدنية.. والمناديل الورقية.. ومعها أحيانا يوزعون نسخا من المصحف الشريف.. أو أجزاء مطبوعة منه.. مختارة بعناية.. مصحوبة بدعوات صالحات للراحل الكريم.
اليوم اختفى الصديق.. ففكر المنادى كيف يمضى الوقت المتاح حتى العودة للمنزل.. مستبعدا الذهاب وحيدا إلى العزاء خوفا من مشكلة متوقعة مع أصحاب العزاء.. يكتشفون مثلا انه لا علاقة به بأسرة أو أصدقاء المرحوم.
تذكر أمنية بداخله.. لم تتحقق بعد.. فنجان قهوة من بن أصيل.. تلك العبارة التى سمعها أكثر من مرة عند تردده على المصالح الحكومية.. تعكس اكرام الضيف.. يقولها المضيف.. للساعي.. فنجان قهوة من البن الخاص.. قرر ان يجرب.. قادته قدماه إلى أكبر المقاهى مساحة وأكثرها فخامة فى الميدان الساهر القريب من موقف الميكروباص.
لحسن الحظ.. لم تكن المقهى مزدحمة بالزبائن.. مجموعة منهم تحيط بشاشة التليفزيون العملاقة.. حيث تبث مباراة مهمة فى كرة القدم من حسن حظه ان الجرسون لا يشجع أياً من الناديين جلس بعيدا.. عند النصبة.. لمحه فقام متكاسلا.. لم يكن يدرى عن الكيمياء التى تربطه بهذا الزبون.
بادره عن الطلب.. قال فنجان قهوة.. على ماء بارد.. من فضلك.. تحمس الجرسون قائلا: بل سأضع لك.. فنجانا من بن المعلم المخصوص.. بالفعل لحظات عاد الجرسون حاملا صينية احتفالية.. فنجان بورسلين فاخر.. كوب من الماء المثلج.. أوراق من النعناع الأخضر.. رائحته تسعد الأنف والعينين.
وضع المنادى قدما فوق أخري.. وهو يرشف القهوة.. كخبير.. أسعدته تماما.. وتمنى لو يعرف السبب فى هذا الاحتفاء.. تذكر ان غدا ذكرى مولده الثلاثين.. قرر استطلاع حظه بقراءة الفنجان.. انهمك فى تفسير الخطوط والنقاط والأشكال التى برع البعض فى ترجمتها إلى أخبار وتوقعات.. بينما انطلقت من مسجل المقهى أغنية قارئة الفنجان لعبدالحليم ونزار.
الغريب ان الجرسون زاد من الفضل ان اعتذر عن قبوله ثمن الفنجان.. قائلا.. يا عزيزى اعتبرها هدية من إنسان لإنسان بعدها غادر المنادى المكان.. وقرر العودة إلى منزله بعد أربع محطات أتوبيس.. سيرا على الاقدام.. ومتأكدا بأن لبن المعلم طعم آخر.