قد تضيق المسافة او تتسع، فى موقع وقلم الاديب بين الواقع والظواهر الاجتماعية التى يعيشها ، وبين الابداع والفن من جهة اخرى … وهنا تكون الاشكالية هل ينقل الواقع كالكاميرا الفوتوغرافية ام يهضمه ليعيد انتاجه فى صورة اخرى قد تتشابه أو تختلف عن الواقع بدرجات… حوار ذو شجون مع الاديب الكبير ابراهيم عبد المجيد صاحب العديد من الاعمال الروائية والقصصية منها ليلة العشق والدم، البلدة الأخري، بيت الياسمين، لا أحد ينام فى الإسكندرية، طيور العنبر، و الإسكندرية فى غيمة الشجر والعصافير، إغلاق النوافذ، فضاءات، سفن قديمة وكانت جائزة النيل عام 2022 اخر الجوائز التى حصل عليها.. وهذا حوارنا:
> المسافه الفاصلة بين الوقوع فى فخ محاكاة الواقع وبين الرؤية والخيال الى اى مدى تتحقق هذه المقولات فى ابداع جيلكم والاجيال الجديدة؟
>> هذا سؤال يخص النقاد . أنا ليس لدى إجابة كافية عنه، لكن بشكل عام فإن كلمة محاكاة الواقع كلمة مضللة، فماذا يفيد القارئ أن تنقل له ما يراه حوله ويعرفه… من هنا يأتى الخيال الذى هو قوام الإبداع . يمكن أن تبدأ بموقف حدث فى الحياة، لكنه فى الرواية يأخذ مسارات أخرى غير حقيقية . الإبداع هو إقامة عالم مواز مستقل يختلف بين كاتب وآخر لاختلاف الخيال.
> هل عبر الادب عن حجم التغيير الذى طال المجتمع المصرى فى العقدين الأخيرين من نهاية القرن العشرين، والعشرين الأولى من القرن الجديد؟
>> ليس هناك إجابة قاطعة على هذا السؤال فهناك من تحول الأدب عنده إلى تراجيديا، وهناك من تحول الأمر عنده إلى كوميديا، وفى كل الأحوال أنا لست ممن يبحثون فى الرواية عن المجتمع، لكن أبحث عن الخيال وعن عالم وهمى تعيش فيه الشخصيات ويتسم بالصدق الفنى فى تصويرها وتفاعلها مع ما حولها.
> قلت وماذا عن رصد التغيرات فى الواقع ؟
>> البحث عن التغير فى المجتمع هو بحث علمى يليق به أن يكون فى الدراسات الاجتماعية والسياسية . صحيح النقد يبحث فى الروايات عن ملامح ذلك، لكنى أرى أن الفن حياة أخرى وعالم اخر، والمتعة فيه مقياس مهم!.
> جيللكم بدأها بمقولة «نحن جيل بلا اساتذة « .. هل ذقتم نفس الكأس عندما صرخ الشباب فى وجوهكم « لن نعيش فى جلباب ابي» ؟
>> الذى صرخ بهذه المقولة كان محمد حافظ رجب رحمه الله الذى كان بمثابة فاتح الطريق لجيل الستينات، وكان يعبر عن طريقته فى الكتابة، وهى بالفعل غير مسبوقة فى الأدب العربي. أنا أرى أن كل جيل عليه أن يتحرر مما سبقه، ويبدأ من حيث انتهى ممن سبقوه.
> من وجهة نظرك هل تحررت الاجيال الجديدة من أسر جيل الستينات؟
>> فى الاجيال الجديدة كثير من الموهوبين المتحررين ممن سبقوهم وطالما ناديت النقاد بدراسة الأشكال الفنية عند الأجيال الجديدة لعلهم يصلون إلى ملامح خاصة بهم تفيد من بعدهم أن يتجازوها أيضا . وفى كل الأحوال لا يوجد «نفي» فى الأدب، فالتحرر مما سبق لايعنى نفى الأجيال السابقة، فكما يقرأ القراء الكاتب الجديد يقرأون محمد حافظ رجب ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ويحيى حقي.
> وهل يضر التجديد ما يحدث من تأثير وتأثر؟
>> كما قلت فى الفنون لا يوجد نفى ولكن يوجد «نسخ» بمعنى الاستفادة ما سبق لأقيم بيتا جديدا يخصني. لكن فى كل المراحل فالأدب العظيم عابر للأجيال حتى لو تمردوا عليه . نحن نشاهد مسرحيات جديدة مثلا للشباب كما نشاهد مسرحيات يونانية لسوفوكليس ، ونقرأ روايات للشباب كما نقرأ لأميل زولا وهكذا .
> فى كل اسبوع «يوم جمعة».. اقتراب من عالم الشباب على الانترنت ام اختراق ودخول الى عش الدبابير .. وكيف خرجت من هذا العالم السرى ؟
>> أنا أسعى إلى التجديد فى شكل رواياتى دائما، ويوما ما فكرت أنى كتبت عن مدن وبلاد وصحاري، لكن الآن هناك مدن افتراضية، فأتتنى فكرة رواية «فى كل أسبوع يوم جمعة» . والسوشيال ميديا ملمح رئيسى الآن فى الحياة لذلك لم تخل منها رواياتى بعد ذلك.
السوشيال ميديا
> الفيس بوك نافذة لرؤية العالم ام استنفاد للوقت والابداع؟
>> الشاطر من يحدد وقتا قليلا له، لكنه مغر ويضيع الوقت فعلا واستنفاد للإبداع، وقت قليل له قد يجعل الكاتب يرى أفكارا أو قضايا جديدة يمكن أن تفيده وخاصة أنه صار المقهى المتاح للجميع، والمهم أن يتحكم فى الوقت ولا يهدره فى متابعة التفاهات.
> الى اى مدى يمتلك المبدع الآن عينى زرقاء اليمامة، يشير إلى الخلل ولا يمنعه، يشخص الدّاء ويترك لمن يهمه الأمر وصف الدواء؟
>> التنبؤ والرؤية تختلف من كاتب إلى آخر بقدر موهبته ومعايشته الروحية لما يكتب عنه . لكن هو نفسه لا يدرك تنبؤاته إلا بعد وقوعها . كلنا أدركنا ما فى قصيدة أمل دنقل « البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» بعد هزيمة 1967، أما من يريدون فعليهم على الأقل قراءة كتب المفكرين فى كل القضايا الاجتماعية فهى أكثر تأثيرا ووضوحا .
> هل عبر الشباب عن همومهم ابداعيا ام مازالوا يحتاجون اليكم؟
>> لا أحد يحتاج إلى أحد . متعة الكتابة تغنى عن أى أحد . وعلى كل كاتب أن يعرف أن هناك قارئا لا يراه ولا يعرفه يقرأ كتابه . ومهما ضاقت الحياة الأدبية بسبب الشلل والجماعات وأحيانا الاحقاد فلابد للأدب الحقيقى أن يفرض نفسه . المهم ألا يتعجل أحد الشهرة . ثم هناك الآن عالم واسع هو السوشيال ميديا سيجد فيه من ليسوا حوله فى الحياة الثقافية.
المعارك الأدبية
> فكرة كتاب الأيام الحلوة، جاءت بعد إطلاعك على المعارك الأدبية التى وقعت فى فترة العشرينات، «طه حسين، وسلامة موسى والعقاد ومصطفى صادق الرافعي، فى الأدب والفلسفة.. كيف رأيتها؟
>> المعارك الفكرية القديمة كانت من أجل نهضة البلاد . كانت معارك حول التجديد فى الفن والفكر والسياسة ولم تكن معارك شخصية، للأسف هذا النوع من المعارك انتهى بعد الستينات.
> غياب المعارك الادبية والفكرية الآن سببه الكتاب والمفكرون الذين جاءوا بعدهم ام المناخ ام مستوى التلقي؟
>> صارت المعارك شخصية حافلة بالقدح والذم والألفاظ البذيئة التى لا تليق بالكتاب… أيضا أنا أستفدت من قراءتى فى المعارك القديمة أنها مع الزمن زالت وبقى إبداع الكتاب . صار مكان تلك المعارك الجامعات والدراسات الأدبية.
> لكن ما بقى هو الإبداع؟
>> لذلك تجنبت الحديث عن المعارك الشخصية وكتبت عن الأيام الحلوة، وحين جاء ذكر لبعض من ضايقونى على المستوى الشخصى فى عملى لم أذكر اسماءهم، لكنى ذكرت الوقائع وتركت لمن يريد أن يعرف العودة للصحافة فى ذلك الوقت فلا شئ كان خافيا. مجمل ما كتبته عمن ضايقونى وحاربونى فى حياتى لا يزيد على ثلاثين صفحة متفرقة فى كتاب من ثلاثمائة صفحة عن الأيام الحلوة وناسها .
> المعارك تصنع المفكر أم تستنزفه وهل المجتمع قادر على استيعاب بعضها ؟
>> المعارك الفكرية تصنع المفكر والقراء والمجتمع. أما المعارك الشخصية فاستنزاف للوقت والروح والأفضل تغافلها رغم أن بعض الحمقى ساعدتهم السوشيال ميديا على الخوض فى أعراض الناس . هؤلاء الحمقى وصلوا إلى درجة الشماتة فى موت الآخرين ممن لا يحبونهم وهذا مؤسف جدا!
اسكندرية ليه..؟!
> سيطرة الفكر السلفى او الدينى وعدم المواجهة الفكرية من المبدعين وشيوع مناخ التحريم للفن.. الى متى ؟
>> هناك كثير من الكتاب يتصدون لهم.. المسألة أكبر من التصدى من المفكرين ولا بد من تغيير مناهج التعليم العام ليكون فيه ما يساهم فى خلق أجيال جديدة بعيدة عن هذه الأفكار. هذا هو الطريق المؤثر.
> لا أحد ينام فى الاسكندرية.. الاسكندرية فى غيمة… اسكندرية ليه..؟!
>> الاسكندرية تغيرت كثيرا وغلبت عليها العشوائيات والفكر السلفى .. . أنا رأيتها فى طفولتى وهى مدينة العالم فجاءت لا أحد ينام فى الاسكندرية. ورأيتها وهى تفقد طابعها العالمى بعد إخراج الأجانب منها فى الخمسينات والستينات وفقا لسياسة عبد الناصر ..فصارت مدينة مصرية وتجد ذلك فى الجزء الثانى من الثلاثية وهو رواية «طيور العنبر».
> وماذا حدث فى الاسكندرية؟
>> ظل السكندريون يعيشون فى تسامح ويقدرون الآخر والفن والثقافة العالمية، ثم بدأت الهجمة السلفية عليها منذ السبعينات فجاءت رواية «الإسكندرية فى غيمة» كجزء ثالث وفقدت طابعها العالمى والمصري. أسميتها الإسكندرية فى غيمة على أمل أن تنقشع الغيمة يوما ما . لعل وعسي.
> هل مازلت هناك تعيش فى الاسكندرية رغم انتقالك للقاهرة منذ سنوات طويلة؟
>> روحيا أعيش على الذكريات. لم أعد أزور الإسكندرية كثيرا لأن ما عشته من جمال اختفي. لكن حياتى فى القاهرة منذ عام 1974 جعلتنى بعد مرور تقريبا ثلاثين سنة أكتب عن القاهرة . أنا ابن المدن التى اختفت وصارت كالحلم الضائع حتى القاهرة تغيرت كثيرا ولم تعد المدينة التى رأيتها فى سنوات إقامتى الأولى تجد القاهرة فى روايات مثل «هنا القاهرة» و»عتبات البهجة» «وفى كل أسبوع يوم جمعة» و» قاهرة اليوم الضائع» و» ثلاثية الهروب من الذاكرة» وغيرها.
> تعيش اللحظة والحاضر ام تهرب من الحاضر الى الماضى ام تهرب من الحاضر الى المستقبل؟
>> لا أشغل نفسى بذلك. أنا ابنى عوالمى فى رواياتى وأعيش فيها ومع شخصياتها ولا أفكر مقدما ماذا أفعل. لكن الكتابة فى كل الاحوال تجعلك تعيش فى عالم أجمل حتى لو كان وهما.
> كيف يعيش الأديب ابراهيم عبدالمجيد الواقع الآن ابداعيا؟
>> انا منذور للكتابة. هكذا تفعل الموهبة بالمبدعين. أما كيف أعبر عما حولي، فهذا متروك لشخصيات الرواية فهى التى تصحبنى إلى ما تريد.
> هل يمكن ان تصف لى لحظة الابداع الخاصه بك؟
>> هى لحظة أشعر فيها أن روحى تلح عليّ أن أجلس وأكتب ما تريد. لقد اعتدت أن اكتب بعد منتصف الليل ودائما تستجيب روحى فى هذا الوقت . الرواية تكون كامنة فى اللاشعور وتريد الظهور فأستجيب وأكتب فى ضوء ابيض لمصابيح الكهرباء، وأستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية تأخذنى إلى السماء.
أى عصر؟
> هل مازلنا نعيش عصر الرواية ام انتقلنا الى عصر الدراما والادب التليفزيونى أم إلى ادب الانترنت؟
>> ما زلنا نعيش عصر الرواية فالناس فى كل الدنيا يحبون سماع الحكايات، وتأتى الدراما التليفزيونية لتقرب الروايات من الإنسان العادي، ولذلك نحن نحتاج إلى كثير جدا من الأفلام والمسلسلات، وأن تعود مصر كما كانت يوما هوليوود الشرق.
> هل تذكر اول مرة تطأ قدمك القاهرة وما مشاعرك وهل تسربت الى الابداع؟
>> طبعا أذكر ذلك جيدا وكتبت عنه فى مقالاتى وكان ذلك عام 1964 وكنا فى رحلة مدرسية من الإسكندرية للقاهرة. تركت الرحلة ورحت أمشى فى منطقة الحسين والجمالية أبحث عن شخصيات نجيب محفوظ الذى كنت اقرأه كل يوم، وعادت الرحلة بدونى لأنى قررت أن أبقى فى القاهرة. نمت فى مسجد الحسين ليومين أو ثلاثة لا أذكر حتى نفدت نقودى ولم أجد عملاً مناسباً لسنى فعدت إلى الاسكندرية ووجدت المدرسة والبيت فى قلق شديد وأبلغوا البوليس عن فقدانى واندهشوا جدا من جنوني.
> هل تذكر اول مرة تغادر الاسكندرية وهل وصفت ذلك ابداعيا؟
>> كانت هذه كما قلت أول مرة أغادر الاسكندرية. لكن بعد ذلك غادرتها حين صرت شابا وأنشر قصصى فى المجلات القاهرية مثل المجلة والهلال. وكل ذلك تجده فى رواية «هنا القاهرة» وإن جعلت البطل من دمياط.