يقول الحق سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز مخاطبًا نبينا «صلى الله عليه وسلم» : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، والبصيرة تعنى العلم والدراية والرؤية والبينة كما تعنى الحكمة والموعظة الحسنة حيث يقول الحق سبحانه وتعالي: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
وقد حذر نبينا «صلى الله عليه وسلم» من التجرؤ على الخوض فى دين الله «عز وجل» بغير علم ولا بينة ولا بصيرة، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) : «أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار»، ويقول «صلى الله عليه وسلم» : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا، وعندما كان جماعة فى سفر وأصاب أحدهم جرح فى رأسه، ثم احتلم فسأل من معه، فقالوا : لا نجد لك إلا الغسل، فاغتسل على جرحه فمات، فلما بلغ ذلك النبى «صلى الله عليه وسلم» قال : «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جَرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» .
وكان أصحاب النبى «صلى الله عليه وسلم» يُسألون فيحيل الواحد منهم السائل الذى يسأله إلى صحابى آخر، وقد يحيله الآخر إلى غيره، وقد تتكرر إحالته من صحابى إلى آخر حتى يرجع السائل للصحابى الذى سأله أولا، إذ كانوا يستشعرون عظم أمر الفتوي.
والبصيرة تقتضى الحكمة والموعظة الحسنة ؟ وهو ما علمنا إياه نبينا «صلى الله عليه وسلم» فى دعوته التطبيقية، فعن معاوية بن الحكم السلمى قال : بيْنَا أنَا أُصَلِّى مع رَسولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ)، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِى القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَبِأَبِى هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِى ولَا ضَرَبَنِى ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصلاة لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ» .
فما أحوجنا إلى التأدب بأدب الإسلام فى عدم الجرأة على الخوض فى دين الله بدون علم ولا بينة، وأن تكون دعوتنا دائما بالحكمة والموعظة الحسنة، فدور العلماء هو البلاغ لا الهداية ولا الحساب. فأمرهما إلى الله وحده، حيث يقول سبحانه : «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، ويقول سبحانه : (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ. وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا)، ويقول سبحانه : (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى . وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون).
ويقول سبحانه :(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) ويقول سبحانه: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)، ويقول سبحانه: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).