يبدو أن الكثيرين لا يهتمون «بهندسة المسافات البينية» ومن هنا تولد معظم المشاكل والمشاحنات، فالعلاقات بين الناس كما العلاقات بين الدول تحتاج إلى قراءة العديد من المحددات التى يجب معرفتها ومراعاتها بشكل دقيق، وأسوأ ما يضرب العلاقات فى مقتل هو ادارتها بشكل عشوائى دون معرفة الخطوط الفاصلة والمنحنيات المتغيرة صعودا وهبوطا، لذلك أستدعى مجددا «نظرية القنفذ» فالقنافذ تقترب من بعضها البعض باحثة عن الدفء وكلما اقتربت أكثر شعرت بالاسترخاء وما زالت تقترب وتقترب، حتى تستيقظ مفزوعة من وخز الأشواك التى تؤلمها فجأة من جميع الاتجاهات فتبتعد فورا إلى أقصى مسافة وبعد فترة يهاجمها البرد من جميع الاتجاهات فتبدأ مجددا فى رحلة البحث عن الدفء حتى تصل إلى مرحلة الوخز المؤلم وهكذا، القنافذ لا تفهم ولم تقرأ «نظرية المسافات البينية» لذلك تمر بهذه الرحلات المؤلمة، لكن الإنسان عليه أن يحسن تقدير تلك المسافات حتى لا يصل إلى مراحل البرودة والتجمد أو السخونة والغليان، لكن الخطأ الشائع بين الكثيرين هو الاعتقاد الخاطئ بأن هناك «قنافد ملساء»، وهنا أؤكد أنه لا يوجد قنفذ أملس، فالشوك موجود ولا تكتشفه إلا مع الاقتراب أكثر من اللازم ومع أولى الوخزات المؤلمة فتبدأ فى رحلة الابتعاد والتراجع، عموما العلاقات الإنسانية شديدة التعقيد وتحتاج إلى مهارة حقيقية فى فهم الآخر والوقوف على محددات كل شخصية، فالناس وكما لهم بصمات متباينة وضحكات مميزة ووجوه مختلفة فبالتأكيد لهم أمزجة وقناعات وتوجهات وثقافات ومرجعيات مختلفة، وكما نقول فى أمثالنا الشعبية «الناس مش شبه بعضها» و»صوابعك مش زى بعضها» وفى القرآن الكريم نجد قوله تعالي: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»، وهناك حكم وعلل فى هذا الاختلاف وليس الخلاف، فقط علينا أن نضع كل اختلاف فى موضعه وحجمه ونفهم مغزاه دون تقعير أو تحديب، وهنا نأتى إلى بيت القصيد وهو فهم الآخر والوقوف على ناصية الشخصية بكل تنوعاتها وتعقيداتها وبساطتها فى نفس الوقت، ولا يعقل أن نتعامل مع كل الشخصيات على كل هذا التباين بنفس الطريقة ونفس المفردات فى كل الأوقات، كذلك يجب أن تكون هندسة المسافات البينية حاضرة فى كل الأوقات ومع كل الشخصيات، والأهم من كل ما سبق هو معرفة الإنسان لنفسه جيدا والتمعن جيدا فى خريطة النفس البشرية، فالآخرون يتغيرون وأنت أيضا تتغير، والتغيير ليس شرطا أن يكون للأسوأ أو الأفضل بل يمكن أن يكون تغييرا فى الطريقة والأدوات والمحددات وهذا يتطلب ان يكون الإنسان يقظا لهذه التغيرات، مع التأكيد على تلك المسلمة يا عزيزى «ليس بين القنافذ أملس».