منذ بداية الصراع العربى الاسرائيلى وعلى مدار العقود الماضية، كانت سياسة الاغتيال جزء من أعمدة دولة الاحتلال، والتى دأبت تل أبيب على اتباعها ضمن استراتيجيتها لردع الخصوم. وبالنظر الى حوادث الاغتيالات التى قامت بها اسرائيل نجد أنها تتمدد جغرافيا من الأرض والجو إلى رقعة واسعة لتغطى مناطق فى أوروبا ولتصل إلى عمق إفريقيا فى السودان وأوغندا كما أنها تتوسع شرقا حتى إيران،منتهكة سيادة الدول الأخرى وبعضها لمرات.
استخدمت إسرائيل عدة أساليب فى التنفيذ، منها الطرود المفخخة والمسدسات المزودة بكواتم الصوت، والسيارات المفخخة والقنص والمواد الكيميائية السامة والخنق، والطائرات المسيرة، وصولا إلى القصف الجوى بقنابل ضخمة لضمان التدمير الكامل للهدف.
عملية الاغتيال الكبرى التى نفذتها اسرائيل فى العاصمة الإيرانية طهران، وراح ضحيتها اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى لحركة «حماس»، ما هى الا جزء من سلسلة العمليات التى كان من أبرزها اغتيال زعيم حركة حماس ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين فى مارس 2004 كما انها جاءت تنفيذًا لما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى نوفمبر 2023، بتوجيهه الموساد بالعمل ضد قادة حماس، بما فى ذلك من هم خارج غزة، لتظهر مدى شهية القادة الإسرائيليين للتخلص ممن يشكلون تهديدا، علاوة على أنها تظهر تمسكهم بوهم أن القتل يحل كل المشاكل.
مثل هذه الأوهام تغذيها «الحصانة» التى تتمتع بها إسرائيل من الغرب فهى لم تتوقف على اقتناص أعدائها فى أى مكان تصل إليه، دون أن تجد من يصدها بطريقة متكافئة وبمواقف دولية صارمة، كما يجرى فى مثل هذه الأحوال. وشملت عمليات الاغتيال التى نفذها جهاز الموساد الإسرائيلى عددا كبيرا من الدول منها، فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص ومالطا والنرويج وأوغندا وماليزيا وإيران، ولبنان وتونس والسودان وسوريا والعراق.
ولم تقتصر الاغتيالات على قيادات ميدانية داخل غزة والضفة الغربية، بل تجاوزتها لتشمل قيادات سياسية وعسكرية بالاضافة الى عدد من العلماء فى الخارج،وتأكيدا على أن الاغتيالات جزء من السياسة الاسرائيلية.
عمليات الاغتيال التى اعتمدتها العصابات الصهيونية بدأت قبل عام 1948، كما حدث فى اغتيال عصابة شتيرن لكل من اللورد موين وزير الدولة البريطانى لشؤون الشرق الأوسط عام 1944، والكونت فولك برنادوت المبعوث الأممى للقضية الفلسطينية.
ثم توالت بعد ذلك عمليات «القتل السياسي» فى أوروبا، فباريس على سبيل المثال شهدت ثلاث عمليات تنفذهاالموساد كانت بدايتها عام 1972 باغتيال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية بفرنسا محمود همشرى بزرع قنبلة أسفل طاولة هاتفه، وفى العام التالى تم اغتيال باسل الكبيسى الأستاذ فى القانون بالجامعة الأمريكية ببيروت بأعيرة نارية فى أحد شوارع العاصمة الفرنسيةباريس،فيما نفذ الموساد عملية اغتيال ثالثة كبيرة عام 1980، واستهدفت العالم المصرى فى الفيزياء النووية يحيى المشد الذى كان يقود البرنامج النووى العراقي.
فى أوروبا أيضا، تحرك الموساد فى إيطاليا وقام باغتيال وائل زعيتر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية فى هذا البلد، بإطلاق النار عليه أمام مدخل شقته فى أحد أحياء روما. وفى نيقوسيا عام 1973، اغتال جهاز الموساد الإسرائيلى حسين البشير، ممثل حركة فتح فى قبرص بقنبلة زرعت فى غرفته بأحد الفنادق.
واستمر نزيف الدماء الفلسطينية فى أوروبا وكانت هذه المرة فى اليونان، حيث قام الموساد فى عام 1973 باغتيال زيد مقصبي، ممثل فتح فى قبرص.أما النرويج فقد شهدت إحدى سقطات الموساد الكبري، بقتل فريق اغتيال إسرائيلى عاملا مغربيا هو أحمد بوشيخي، ظنا منه أنه حسن سلامة، القيادى الفلسطينى الشهير.
الإسرائيليون نفذوا أيضاً العديد من العمليات السرية بهدف تخريب أو تعطيل المنشآت النووية الإيرانية، علاوة على قيامهم باغتيال أربعة علماء إيرانيين فى طهران بين عامى 2010 – 2012، هم مسعود محمدي، ومجيد شهرياري، وداريوش رضائى نجاد، ومصطفى أحمدى روشن.
لبنان دائما ضحية مفضلة لإسرائيل،وكان لها نصيب كبير من عمليات الاغتيال وكان أشهرها اغتيال حسن سلامة، القيادى البارز فى منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمة أيلول الأسود، بتفجير سيارة فى طريق موكبه فى بيروت فى عام 1979. تلك كانت واحدة من العديد من عمليات الاغتيال الإسرائيلية التى نفذت ولا تزال متواصلة فى لبنان، فمنذ السابع من أكتوبر الماضى قتل 5 قيادات حزب الله اللبنانى انتقاما من مساعدة الحرب لحركة حماس على الجبهة الشمالية لإسرايل كان آخرهم القيادى قؤاد شكر.
تونس هى الأخرى لم تسلم من جرائم إسرائيل على الرغم من بعد المسافة. هذا البلد تعرض لغارة جوية إسرائيلية فى عام 1985 استهدفت مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية فى حمام الشط، ما تسبب فى مقتل العشرات من التونسيين والفلسطينيين.فى هذا البلد اغتال عملاء الموساد أيضا أبو جهاد، القيادى الفلسطينى الشهير فى منزله حى سيدى بوسعيد، شمال شرق العاصمة تونس فى عام 1988. وشهدت تونس حادثة اغتيال أخرى كبيرة، بقتل جهاز الموساد فى ديسمبر عام 2016، محمد الزواري، وهو مهندس يقال إنه تعاون مع كتائب القسام، الجناح العسكرى لحماس فى تطوير صناعة فى غزة للطائرات المسيرة.
كما قتل الموساد محمود المبحوح القيادى فى كتائب القسام، فى 10 يناير عام 2010 بطريقة فظيعة عن طرق الصعق كهربائيا والخنق إضافة إلى وجود آثار سم فى جسده، وقد كشفت شرطة إمارة دبى حينها هوية 11 من المشبوهين فى تنفيذ العملية.
وتبنت إسرائيل سياسة الاغتيالات لتحقيق عدة أهداف تختلف بتنوع الشخصيات المستهدفة، ومن أبرزها، الانتقام وتعزيز الردع عبر إيصال رسالة بأن يدها طويلة يمكن أن تطال أى شخص يعمل ضدها، وأنها لا تنسى ولا تغفر لمن قتل إسرائيليين.ولكن فى المقابل كان لتلك العمليات أثار سلبية على الاحتلال.
على سبيل المثال، اغتالت اسرائيل عباس الموسوى أمين عام حزب الله، عام 1992، عبر قصف سيارته رفقة أسرته، تلك العملية لم تردع الحزب، إنما ساهم فى صعود حسن نصر الله، والذى تمكن من تحويل الحزب إلى جبهة مؤثرة. كما أن اغتيال الموسوى أدى الى رد فعل دموى من الحزب، حيث انتقم بتفجير مبنى السفارة الإسرائيلية بالعاصمة الأرجنتينية مما أدى لمقتل 29 شخصاً، وأعقبه بتفجير مبنى للجالية اليهودية هناك أسفر عن مقتل 85 شخصا.
كماأن اغتيال يحيى عياش -عبر تفجير هاتفه الخلوى مطلع عام 1996- لم يسفر إلى تحطيم القدرات العسكرية لكتائب القسام الجناح العسكرى لحركة حماس كما زعمت اسرائيل، بل على العكس تحول عياش إلى أيقونة للمقاومة الفلسطينية. وطوّرت القسام من قدراتها الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى انتقامها من اغتيال عياش عبر تنفيذ 4 تفجيرات بعد شهرين من تصفيته أسفرت عن مقتل 60 إسرائيليا وإصابة المئات، وهو ما أعاد وقتها للمشهد نمط العمليات الاستشهادية التى توقفت قبل الاغتيال نحو عام كامل، وأثبت أن إسرائيل لا تملك اليد العليا، وأنها كما تضرب تُضرب.
وضمن نفس السياق، دفع اغتيال أبو على مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فى 27 أغسطس 2001، عناصر تنظيمه إلى الثأر بعد أقل من شهرين عبر اغتيال رحبعام زئيفى وزير السياحة الإسرائيلى الشخصية السياسية المتطرفة، فى الفندق الذى يقيم به، وذلك ضمن سياسة رأس برأس.
ونجحت سياسة الاغتيالات فى إزالة تهديدات مباشرة محددة لكنها فشلت فى ايجاد حل طويل الأمد لمعضلة الأمن الإسرائيلي، وأثبتت أنها ليست بديلاً عمليًا للمفاوضات والتسوية. كما أن تلك العمليات تشير إلى أن صناع القرار الإسرائيليين -الذين يميلون إلى التفكير فى المكاسب قصيرة المدى التى تحققها عمليات الاغتيال دون تأمل السياق الإستراتيجى الأوسع ودروس التاريخ.