«الوقوف فى منتصف الطريق يعرضك للخطر. سوف تدهسُك العرباتُ السائرة فى كلا الاتجاهين..!» هكذا قالت رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة، مارجريت تاتشر ردًا على من طلب منها أن تتخذ موقفًا وسطيًا فى قضية مهمة..وتلك حكمة بليغة ينبغى أن يدركها كل صاحب رأى أو قلم أو كلمة أو تأثير ولو كان على السوشيال ميديا حين يتصدى لموقف أو يُطلب منه إبداء الرأى فى قضية مهمة، فمثل هذا الرأى هو بمثابة شهادة لا يصح كتمانها حتى لا يقع تحت طائل قول الله تعالى «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم» «البقرة: 283 «.
المثقف هو ضمير المجتمع ونبضه وعينه على ما يحدث حوله، ومن ثم فلا عذر له إن أمسك العصا من المنتصف فليس مطلوبًا من المثقف الملتزم بقضايا وطنه وأمته أن يمتهن السياسة بحسبانها فن الممكن أو فن صناعة الصفقات، معتقدًا أن مسك العصا من الوسط، هو السبيل الأمثل لإرضاء الجميع، أو الغالبية، أو لتحقيق مكاسب مادية زائلة، أو لتقليل عدد الخصوم الذين قد يعيقون عمله أو يقفون عقبة فى طريقه ..لكن من يعتقد ذلك فقد غابت عنه حكمة بالغة تقول إن رضا الناس جميعا غايةٌ لا تُدرك.. ومن ثم فإن من يسعى إليها فهو غافلٌ قلبه!!
«مسك العصا من الوسط» بمثابة تمييع للموقف وتفريغه من جديته ومصداقيته ونبله، ومن ثم فهو لا يمثل الحل الأمثل، خصوصا إذا تعلق الأمر بقضايا مهمة أو مصيرية لا تقبل القسمة على اثنين، ولا تحتمل مسك العصا من المنتصف، بل إن مثل هذا الموقف له مخاطر محققة، تحيط بصاحبه وربما تفقده ثقة الجميع، لأن موقفه «الوسطي» هذا، ببساطة لن يكون مُرْضيا ولا مقبولا لأى من الأطراف التى يحاول إرضاءها..وهذا هو الخسران الأكبر.
المثقف ينبغى ألا يمسك العصا من المنتصف، فالأولى به أن يكون صاحب موقف واضح ومحدد ينتصر لقيم العدل والخير والجمال، فإذا أمسك العصا من المنتصف فقد خان مبادئه وحاد عن الحق، وصار عديم الفائدة لمجتمعه الذى يعده من قادته ورموزه.
وفى حياتنا كثيرًا ما رأينا أناسًا كنا نظنهم أصحاب مبادئ لكنهم آثروا السلامة وأمسكوا العصا من المنتصف؛ حدث ذلك خلال الأحداث الكبرى كما فى ثورات الخريف العربى فى مصر وتونس، فقد توقف هؤلاء عن إبداء رأيهم فى بداية الأحداث، وتمهلوا حتى يروا الورقة الرابحة ليصبوا فيها، أو حتى يروا اتجاه الريح ويركبوا الموجة؛ فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويعرفون كيف يستفيدون من كل موقف فتراهم يهادنون ويداهنون وينافقون طلبًا لمصالحهم، فهم يؤمنون أن لكل شيء ثمنًا ولا شيء بالمجان ..وهؤلاء يمكن أن ينقلبوا من النقيض إلى النقيض وليس لهم ولاء مطلق لا لفكرة ولا لشخص ولا لرمز بل إنهم براجماتيون يؤمنون بمبدأ ميكيافيلى «الغاية تبرر الوسيلة»..يجيدون التبرير واختراع شماعة يعلقون عليها كل فشل؛ سواء كان فشلهم أو فشل من يدافعون عنه ويتبنون نظريته وموقفه.
هؤلاء هم أخطر أنواع المثقفين؛ فهؤلاء دائمًا ما يراهنون على وجود البديل؛ فهل يستحق أمثالهم لقب مثقف وطني.
فى الزمن المقلوب يكثر هؤلاء الانتهازيون مدعو الثقافة؛ فتغدو القيعان قممًا شاهقة فى ليلة وضحاها، أو تصبح القمم سهولاً جرداء فى رمشة عين أو أدني، ويحدث أيضًا من باب الزراعة الصناعية المسممة المهرمنة أن تنتج الشجرة الخبيثة ثمارًا أكثر خبثًا من أولئك الذين يتخذون الثعلب رمزهم العالى والزئبق شعارهم المثالى والعصا الممسوكة من الوسط صولجانهم الغالي..من الثعلب ربما نحصل على فراء جميل، ومن الزئبق نصنع ميزان حرارة حساسًا ينبهنا إلى كم درجة وصلت حرارة غيظنا، ونحن نقلّب بالمتثاقف صاحب العصا من الوسط الذى سيبقى أبد الدهر منبطحًا على ظهره ..فتبًا لكل عصا ممسوكة من الوسط .
فى الفيزياء لدينا المراوغ العظيم السيد زئبق؛ فرغم أنه من أكثر عناصر الطبيعة كثافة حيث يزن كل سنتيمتر مكعب واحد نحو 13.6 جرام فإن روغانًا من ثعلب قلبه الجوع على ظهره منتظرًا ضحية غبية تمر فى كمينه المنصوب.. فهل جربتم أن تقبضوا على قطرة زئبق على طاولة، وليس بعيدًا عن ثعلب مشرع قوائمه للريح وزئبق مخاتل تناثرت كراته على سطح أملس ..فنلحظ كيف يتكاثر الصيادون الانتهازيون فى الأزمات وهم يمسكون العصا من وسطها ؛ ورغم أنه لا ثقل كبيرًا لهم فإنهم يتفلتون تفلت الزئبق المبثوث، بلا مواقف واضحة.
تعلمت منذ نعومة أظفارى بحكم تربيتى ونشأتى فى بيت ريفى ألا أمسك العصا من الوسط ..ورغم أننى تقلدت فى الحياة مناصب عديدة؛ فقد كنت عضوًا منتخبًا بمجلس نقابة الصحفيين، ومجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر «الجمهورية» لسنوات طويلة.. فلم أمسك العصا من الوسط أبدًا فى أى موقف أو قرار كان يتطلب منى أن أقول رأيى بوضوح وصراحة تامة، فقد تعلمت أن من يمسك العصا من المنتصف هو شخص مراوغ انتهازى يعرف من أين تؤكل الكتف الحرام، ومن أجلها يفعل أى شيء وكل شيء بصرف النظر إن كان حقًا أو باطلاً، وسواء تسبب موقفه المائع فى ضياع حقوق ناس أو إزهاق كرامتهم وسحق آدميتهم أو تشويههم واغتيالهم معنويًا.
قد حرصت قدر استطاعتى أن أقول شهادة الحق مهما تكن كلمة الحق مُرَّة، وما أشد مرارة الحق عند من لا يحبون الحق ولا يرضون به سبيلاً.. وكما قال الإمام على كرّم الله وجهه «الحق ثقيل وبيّ، والباطل خفيف مَريّ.»
البعض يتصور خطأً أنهم قد ينالون ما يتمنون إذا أمسكوا العصا من المنتصف، ويمكنه أن يفعل ذلك مقابل الحصول على كسب مادى أو ترقية أو شيء من منافع الدنيا..!!
الدول كما الأفراد يمكنها أن تمسك العصا من الوسط، نفاقًا ورياء.. ألم تروا ماذا فعل الكونجرس الأمريكى مع خطاب نتنياهو المتهم بجرائم حرب لا تسقط بالتقادم، وكيف كان تصفيق نواب الكونجرس حارًا لقاتل الأطفال والنساء والأبرياء فى غزة.. أليس ذلك قمة النفاق العنصري..؟!
من يمسك العصا من المنتصف يقتل بفعلته روح العدل والإنسانية، ويدخل فى باب النفاق وهؤلاء توعدهم الله بأشد العذاب.. قال تعالى «إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار».. النفاق فساد.. والرشوة فساد.. وسوء الاختيار ووضع الشخص غير المناسب فى وظيفة ما فساد.. وتأخير اتخاذ القرارات الواجبة فساد عظيم.. لكن ماذا نقول عن نخبتنا سوى أن نكبتنا فى نخبتنا التى تكتم الشهادة بلا ضمير ولا عقل.. فهل يمكن الاطمئنان لمن يمسك العصا من الوسط. سواء كان مثقفًا أو صاحب قلم أو إعلاميًا.. أو مفكرًا الأصل فيه أنه ضمير هذا المجتمع؟!